“نديمة” مونودراما تعكس حلم الخلاص من الأزمة
حبال الغسيل المعلقة بين طرفين المحمّلة بقطع الثياب الملوّنة والمختلفة القريبة من الأوعية التي يتصاعد منها بخار الماء ويسرد حكايات أحلامنا المتلاشية، ويومئ إلى كثير من الأبرياء الذين قضوا نحبهم إثر عمليات نفذها الإرهابيون ومن ساندهم من الداخل “نديمة” مونودراما قدمتها روبين عيسى على خشبة مسرح القباني فكانت الحامل الأساسي للخطاب الدرامي الموجّه إلى الشعب السوري عبْر تتابع سردي منولوجي يختزل وجعنا في هذه الحرب الطاحنة ،ويذكّر بالتلاحم الاجتماعي والإنساني والتعايش السلمي بين الأديان وجميع الطوائف ،ويرمي إلى حلمنا بالخلاص من الأزمة والعودة إلى عبق الياسمين البعيد عن نزيف الدم ورائحة الموت.
في هذا العرض لم تكن عيسى بطلة الخشبة فقط فكل من حضر العرض أُعجب بقدرة علي صطوف الكاتب والمخرج على تقديم رؤية سينوغرافية متكاملة ،تخدم النصّ الذي كُتب بلغة شفافة وبمفردات عبّرت عن الهمّ الوطني وعطر الحلم المفقود ،فكانت الإضاءة التي قدمها بسام حميدي متزامنة تماماً مع جزئيات المنولوج الدرامي المرتبط بعلاقة تواشجية مع الموسيقا المسرحية التي قدمها باسل صالح والديكور الذي استغل فضاء الخشبة وقدمه محمد وحيد قزق.
تدور قصة المسرحية حول نديمة التي قرأت بيانات هويتها باسم سورية ورقم عدد سكانها 23مليوناً وعدد محافظاتها 14 وأشهر السنة 12 ،واختزلت بشخصيتها معاناة كثيرين اضطرتهم مجريات الأزمة إلى النزوح القسري والتخلي عن منازلهم وذكرياتهم وعوالمهم و الهجرة الداخلية إلى أمكنة غريبة لكنها بعيداً عن خطر الموت والرصاص الغادر ،ومن حسن حظ نديمة أنها وجدت ملاذاً آمناً في القبو الذي كان مسرح الأحداث ،لتعيش فيه بعد أن أصبحت وحيدة وتهجّرت عنوةً وفقدت أفراد عائلتها، تقوم بغسل ثياب سكان البناء مقابل بقائها في القبو،ومن خلال حركات انفعالية عصبية غاضبة تجمع حبال الغسيل التي تربط بعقد بين القطع تلفها ثم تعيد ربطها بالطرف الآخر كإيماءة واضحة للأحداث التي تدور على أرض الوطن ،ولأسلوب الكرّ والفرّ الذي يتبعه الإرهابيون لعدم قدرتهم على المواجهة ومع غسل القطع في الوعاء تسرد بأسلوب حواري مع الذات حكايات النزوح والقتل والموت لتغوص أكثر في خبايا المجتمع فتستحضر صوراً مختلفة للنساء الموجودات في البناء ودورهن في عائلتهن دون فواصل زمنية إلا التغيّر الواضح في الإضاءة والموسيقا وتظهر براعة عيسى في توظيف طاقاتها وأدواتها وتعابيرها لتجسيد واقعهن وترجمة حالات إنسانية مازالت تحت وطأة الظلم الاجتماعي ،وتتمكن من تقديم شخصيات مختلفة بالانتماء والدين والعمر لتتوقف عند المرأة التي تطلب من الله أن يهبها طفلاً تنذره للوطن ترضعه من جميع نساء الحارة ،كي يصبح أخاً للجميع ويدخل أي بيت تسميه “عبد الرزاق علي أنطون” كرسالة مباشرة إلى العودة إلى الماضي وتوقف الاقتتال بين أبناء الوطن الذي يضم الجميع، وتنتقل سريعاً لتجسد شخصية هدية الفتاة الصغيرة التي تتزوج وهي في الرابعة عشرة من رجل متزوج لتكتشف أنه عقيم وتقع أسيرة عطر رجل يزورهم ،لتجد نفسها الراقصة المغناج مهجة التي تهب جسدها لمغازلة الرجال وتتعرض للضرب المبرح أثناء مرضها لعدم قدرتها على الرقص، في هذا المشهد برعت عيسى بالانتقال المفاجئ من حالة حزن وبكاء إلى الرقص على نغمات الموسيقى الشرقية موظفة ليونة جسدها وبراعتها بتجسيد هذه الشخصية وإسباغ ملامحها على أدائها .لتنتقل إلى حكاية فتاة تنتظر حبيباً لن يأتي ربما لخلاف الدين أو الطائفة كقولها “قالوا نحنا مو لبعض”. ويقرن المخرج الزمن الحاضر بالماضي فتستحضر نديمة صوراً حقيقية لشريط عمرها وذكرياتها واشتياقها لأهلها وحارتها ،ومن ثّم تعود في المشهد الأخير إلى الواقع الحالي حينما تترك الغسيل وتنهي المسرحية بقولها “يا قبر عم تكبر مساحتك، عم تخنقني عتمتك” في إيماءة إلى مساحة الموت التي امتدت على مدى مساحة سورية وإشارة إلى عدد الشهداء المتزايد وبأغنية “زوار جينا على الدني” -التي خدمت العرض بشكل واضح- تخرج من القبو وتقفل الباب كحلمنا بالخلاص من الأزمة ،ويفاجئنا المخرج بالمطر المنهمر بغزارة في مشهد غير مألوف ليغسل أرواحنا وأوجاعنا، وليأتي الربيع بعد الشتاء لننعم بحياة جديدة بعيدة عن الخراب والتدمير.
وتميّزالعرض بالموسيقا التي كانت توليفة تجمع أنماطاً مختلفة ،إذ ركز الموسيقي باسل صالح الذي استفاد من خبرته في الغناء الشرقي والعزف على القانون على الآلات الشرقية التي تعبّر عن هويتنا والتمسك بجذورنا ،موظفاً نغمات العود بأبعاد صوتية متدرجة ومستخدماً الناي الإيراني المتسم بنغماته الجارحة الشجية وموظّفاً أيضاً شعر مظفر النواب في صوته في قصيدة “ياحزن ما عرفتك” واعتمد على مقطع بصوت أم كلثوم استهل به العرض وعلى عدة أغنيات لازمت الشخصيات أثناء العرض مثل” يا روح لاتحزني وحلفتك بالنبي داوود و..وأغنية الاختتام زوار عل الدني زوار” .الأمر اللافت أن صالح استخدم آلة الدودك في مقاطع استرجاع نديمة صور الماضي وهي -كما ذكر في سؤال خاص للبعث عنها- آلة أرمينية انقرضت حتى في أرمينيا مغرقة في القدم تعبّر عن الحنين والأنين.
مِلده شويكاني