بعد رحيله وقبل تأبينه بأيام د. حيدر يازجي أول من أسس دائرة الرسوم المتحركة في التلفزيون العربي السوري
لأنه لم يكن شخصية عادية، ولا مجرد فنان تشكيلي، بل شخصية عامة تمد يدها للمساعدة أينما كانت، وتنشر الفرح أينما حلتّ، كان رحيل الفنان د.حيدر يازجي مؤخراً مفجعاً لكل من عرفه أو حتى سمع به، فكيف بمن جمعته به صداقة وزمالة لا تقل عن عشرين عاماً أمثال الفنان أنور الرحبي، الذي بيّن في مشاركته في الندوة التي خصصها مركز ثقافي أبو رمانة مؤخراً للحديث عن الراحل حيدر يازجي ضمن سلسلة “أعلام خالدون” أن رحيل يازجي أتعبه كثيراً، وهو الذي كان ألطف من نارنج دمشق وياسمينها، فكان صادقاً، صدوقاً، معافى من كل الأمراض التي تدخل في عالم البشر، وقد ملأ الحب قلبه وحياته، مشيراً إلى أنه كان جميل النفس والروح، قريباً من القلب، يعطي بلا حدود، يعمل بصمت وهدوء، لا تغريه الأضواء، منوهاً إلى أنه ألّف كتاباً عنه وسيصدر قريباً ليتم توزيعه خلال حفل تأبينه الذي يصادف 26 من الشهر الجاري.
شخصية اجتماعية بامتياز
أما الإعلامي والناقد سعد القاسم فأشار في كلامه عن يازجي إلى الصفات الشخصية الكثيرة التي كان يتمتع بها، مبيناً أنه كان كثير التهذيب، وشديد الدماثة، ولديه قدرة عالية على استيعاب الآخرين، وأنه في كل المناصب التي استلمها (الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون-نقابة الفنون الجميلة-اتحاد الفنانين التشكيليين) لم يبخل على أحد بالمساعدة الإنسانية أولاً، ولذلك فإن كل موظف في هذه الأمكنة يحمل في ذاكرته حكايات عديدة تكشف عن نبله والمستوى الإنسانيّ العالي الذي كان يتمتع به، مبيناً أن أول لقاء له بيازجي كان من خلال إحدى دورات مهرجان المحبة، مؤكداً أن وجوده في هذا المهرجان منحه قيمة ثقافية عالية من خلال إشرافه على المعارض الفنية التي كانت تقام فيه واستضافته للعديد من الفنانين المهمين كعمر حمدي مثلاً، ولأن يازجي كان شخصية اجتماعية بامتياز أكد القاسم أن الكثير من الأمكنة ستفتقد لحضوره، ولاسيما المعارض الفنية التي اعتادت على وجوده.
خير معين للفنانين الشباب
كما أكد القاسم أن يازجي كان موهوباً بحكم الوراثة، وكيف لا يكون كذلك وهو ينتمي إلى عائلة فنية “أدهم ونعيم وعزيز اسماعيل” فكان من الطبيعي أن تظهر موهبته في سن مبكرة وقد تعددت هذه الموهبة باتجاهات فنية كثيرة من إخراج وديكور ورسوم متحركة، وقد درس هذا الفن الأخير في الاتحاد السوفييتي فكان أول من أسس دائرة الرسوم المتحركة في التلفزيون وذلك بعد عودته من هناك، ورأى القاسم أن المجتمع السوري من خلال وجوده في هذه الدائرة بدأ يتعرف عليه، بالإضافة إلى المعارض الفنية التي كان يقيمها بين فترة وأخرى.. ولحضور يازجي القوي في كل أنشطة وزارة الإعلام وجد القاسم أنه من الصعوبة بمكان تلخيص ما كان يقوم به، إلا أنه لا يمكن أن ينسى الدور الحيوي الذي كان يقوم به بين الفنانين العرب الذين قدمت لهم سورية المساعدة، مشيراً إلى قدرته الفائقة في التعامل مع الحالات الصعبة، ولذلك كان رفيقاً ملازماً لكل تحركات الفنان، والناقد طارق الشريف بعد تدهور صحته في سنواته الأخيرة، وأسف القاسم على رحيل يازجي وهو الذي كان خير معين للفنانين الشباب، حيث لا يخفى على أحد أنه كان أول من شجع على استمرار معرض الفنانين الشباب.
عند البحيرة
أما على الصعيد التشكيلي فبيّن القاسم أن يازجي كان فناناً واقعياً متأثراً بالواقعية الاشتراكية، وميزته –برأيه- أنه وإن كان كذلك إلا أنه لم يكن متعصباً في يوم من الأيام لهذا الاتجاه، فكان يدافع عن التجارب الفنية البعيدة عنه، خاصة وأنه كان قادراً على رؤية ما لا يراه الآخرون، ورأى القاسم أن يازجي في ذلك يمثل حالة نادرة في الوسط الفني لأن أنانية الفنان ونرجسيته جعلت الكثيرين يتعصبون للمدارس التي ينتمون إليها وينكرون كل ما سواها.
وختم القاسم كلامه عن يازجي مذكّراً الحضور بأهم اللوحات التي رسمها وتأتي في مقدمتها لوحة حرب تشرين التحريرية-مرصد جبل الشيخ اللوحة الأشهر بقيمتها المعنوية والوطنية وهي إحدى أهم ست لوحات تؤرخ لهذه الحرب، في حين كانت لوحته “عند البحيرة” عام 1976 من أجمل اللوحات في تاريخ الفن السوري والتي مهّدت للانطباعية في سورية برأي القاسم وقد رسم فيها زوجته د.سلوى عبد الله لتدل بخطوطها وألوانها على مدى الثقافة البصرية المتطورة التي كان يتمتع بها يازجي.
الخل الوفي والشاعر المبدع
وأسفت د.ملكة أبيض زوجة الراحل سليمان العيسى على رحيل يازجي وقد رحل وهو في أوج الشباب وذروة الإبداع، مبينة أنه وقبل ذلك بسنوات قليلة تقاعد من العمل المهنيّ وخطّط لاستئناف إبداعه على نطاق واسع، وقد دشّن المخطط برسم لوحة رائعة لصديقه سليمان العيسى، وأتبعها بلوحة لا تقل عنها روعة بالنسبة لها وهي التي كانت شريكته في العناية اليومية بصديقه، وأكدت على كلمة شريكته لأنها واثقة من أن يازجي كان يعدّ نفسه المسؤول الأول عنه، مشيرة إلى أنه كان له ابناً، فأولاد الشاعر كانوا بعيدين عنه، في حين أنه كان حاضراً باستمرار وكان صديقاً وأكثر لأنه كان ابن البلد الذي غادر اللواء وجال في أماكن عديدة حتى استقر به الحال في دمشق، وهنا التقى الشاعر والفنان كما تلتقي الزهرة قطرات الندى فكانا يتبادلان قصص الطفولة والهجرة والحنين والأحلام والمستقبل ولذلك حين أخبره ابن البلد يازجي أنه عائد إلى ملاعب الطفولة بزيارة سيقوم بها إلى لواء اسكندرون أهداه العيسى قصيدة بعنوان “هيّئ جناحيك إذاً”:
اِحمل جناحيك وقل لظلنا القديمْ/لدربنا الحميمْ/أنت حنين خالد في البالْ/جذورنا، هل يظفر الموت بها؟.. محالْ..
وأكدت د. أبيض أن العيسى كان معجباً شديد الإعجاب بإبداعه، وحين عرف ذات يوم أن لديه لوحة ليدٍ رسمها خلال أعوام الدراسة في موسكو تمنى أن تكون لديه نسخة منها يضعها إلى جانب لوحته ليتأملها باستمرار، وحين جاءت “اليد” كتب في زاوية منها بخط يده:
أَيَدٌ أم عالم من فتنة؟/كل عرق كاد فيها يصدحُ/ريشة المبدع مرّت فوقها/فإذا الخط بيان يفصحُ..
ورأت د. أبيض أن العيسى حين تغنى باللوحة إنما تغنى بأسلوب الفنان في الرسم، ذلك الأسلوب الواقعي الذي لا يعنى بشطحات الخيال بقدر ما يحرص على الدقة والعمق الذي يجعل المشاهد ذاهلاً أمام الإتقان النابض بالحياة، ولذلك حين جاءت لوحة العيسى بعد انتظار طويل وقصائد عتاب وقف أمامها مذهولاً أيضاً، و كتب قصيدة يقول فيها:
ريشة المبدع هذي أم أنا/أم كلانا قد صهرنا الزمنا؟/ووقفنا لوحة رائعة/هي ليست لي وحدي بل لنا/إنه الفن الذي أبدعنا/فأنت ريشته وهو أنا..
وأوضحت د.أبيض أن اللوحتين اللتين تركهما يازجي، ولاسيما لوحة الشاعر التي ترمقك كلما واجهتها بنظرات عميقة بعيدة ستبقى لتذكرنا أن شاعراً كبيراً وفناناً مبدعاً مرّا على هذه الأرض وتركا عليها بصمات بعيدة الأثر، آسفة لأن الزمن لم يمهل يازجي الفنان ولم يعطه الوقت الضروريّ لإخراج أسراره إلى النور.
سيبقى حياً وإن غادر بعيداً
أما زوجته د.سلوى عبد الله فأكدت في كلامها أن يازجي لم يكن مجرد زوج بل كان رفيق عمرها وصديقها الصدوق، ولذلك لم تستوعب حتى الآن الفراغ الذي تركه في حياتها، وترفض أن تعترف برحيله وهي التي ما عرفته إلا حياً وسيبقى كذلك وإن غادرها بعيداً.
يذكر أن شهادات عديدة قدمها بعض الحاضرين لهذه الندوة كشهادة الباحث أحمد بوبس، والقاصة أمل خضركي زوجة الراحل ياسر المالح، والإعلامية إلهام سلطان، التي دعت من خلال هذه الندوة إلى ضرورة إنشاء متحف الفن الحديث ليكون خير حاضن لإبداع وأرشيف الفنانين السوريين أمثال د.حيدر يازجي.
أمينة عباس