في تأبين د. حيدر يازجي: سيبقى قارورة عطر تنثر شذاها في كل مكان
غيمة حزن خيمت على الجميع تشبه الغيمة الماطرة التي تمضي في سماء دمشق رافقت الحضور الكبير في مكتبة الأسد لمناسبة حفل تأبين الدكتور الراحل حيدر يازجي ومرور أربعين يوماً على وفاته ،وقد ضمّ الحفل شخصيات رسمية وإعلامية وعدداً كبيراً من الفنانين التشكيليين والمثقفين والمهتمين، والكثير من المحبين والأصدقاء الذين تركت ابتسامته الدافئة التي لم تفارق وجهه حتى آخر أيامه أكبر الأثر في ذاتهم ،والتي شملت كل القيم النبيلة والخصال الحميدة التي اجتمعت في شخصيته التي مزجت بين الجانب الإنساني والإبداعي ،فكان رائد الواقعية المرهفة التي لامست أوجاع الناس وسجلت بطولات الشعب السوري ونضاله في الصراع العربي – الإسرائيلي لاسيما اللوحة البانورامية الخالدة عن حرب تشرين التحريرية وجدارية الجندي المجهول ،وعبّرت واقعيته أيضاً عن الإحساس بالآخر فأضفى على ملامح البورتريه المشاعر والأحاسيس الكامنة فغدت أقرب إلى الروح كما في رائعته- اللوحة التي صوّرت الشاعر الكبير سليمان العيسى ،وفي الوقت ذاته امتلك القدرة على تجسيد المشهد الطبيعي المتوهج باللون والإضاءة المشرقة كروحه المفعمة بالحب والأمل والعشق لوطنه سورية وحبّه الدائم للواء الذي بقي أسير قلبه.
بدأ الحفل بترتيل آيات من القرآن الكريم على روحه الطاهرة ثم عُرض فيلم تسجيلي استحضر محطات هامة من حياته من خلال لقاءات لزوجته السيدة الدكتورة سلوى العبد الله ولعدد من أصدقائه ،تخللتها صور له وتوقفت الكاميرا ملياً عند الكثير من لوحاته.
عاد الفيلم إلى سنوات خلت كانت حافلة بالحب والعطاء إلى تاريخ مولده في إنطاكيا 1946 وعرض مرحلة طفولته وانتماءَه إلى طبقة عائلة متوسطة الحال تهتم بالعلم والثقافة فكان جده الشيخ حيدر يازجي مرجعية دينية وثقافية وكان لوالده سليمان ووالدته أثر في توجهه نحو الفن لاسيما أن أخواله من مؤسسي الفن التشكيلي السوري (أدهم إسماعيل ونعيم وعزيز إسماعيل) تعلم في مدارس حلب ثم انتسب إلى معهد الفنون التشكيلية وبدأت ريشته بالتألق ،أقام معرضه الأول في 1963 وشارك في الكثير من المعارض ،وفي عام 1969 فاز بالجائزة الثانية لمهرجان القطن ،ثم انتقل إلى دمشق وانتسب إلى كلية الفنون الجميلة وحصل على منحة دراسية في المعهد العالي للسينما عام 1970 وحصل على الدكتوراه بمرتبة امتياز مع مرتبة الشرف بعنوان (قوانين الحركة في الرسوم المتحركة) وهو أول اختصاص في سورية.
مقدساته
وفي منحى آخر من الفيلم تحدثت الدكتورة سلوى العبد الله عن علاقتها بالدكتور برومانسية وعاطفة شفافة فعادت بها الذاكرة إلى أول لقاء جمعها به القدر في رحلة القطار إلى بودابست التي تضم مجموعة من الطلاب ،تقاربا وزاد من تقاربهما أنها من اللواء ومن حيّه بالذات ،والأمر الجميل الذي تحدثت عنه أن أمطاراً صيفية شديدة جمعتهما تحت مظلة واحدة لتجمعهما الحياة حتى اللحظة الأخيرة، وبعد الزواج أصر كما تقول د.عبد الله على تسمية ابنته الأولى لواء لأن الأنثى تدل على الحب والوطن والعطاء ثم رزقا بريم وربا، وتابعت: كانت مقدساته الوطن والعروبة والإنسان ،وخصصت مساحة من حديثها عن حزنه لفقد اللواء وبقائه نابضاً في قلبه حتى النفس الأخير،فنذر نفسه للوطن ومساعدة الناس وفي أي منصب إداري استلمه كان يعطي الصورة المشرقة والناصعة عن المسؤول السوري ويعمل لمتابعة تألق الحضارة السورية بكل أنواعها ،ثم تناول الفيلم المناصب التي تدرج باستلامها ابتداءً من عمله في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى أن أصبح مدير العلاقات العامة لتوافر جميع الشروط الخلقية والإنسانية في شخصيته إلى إشرافه على العديد من الاحتفالات والمهرجانات ،وكان المدير التنفيذي لمهرجان المحبة طيلة أربعة أعوام وأول مدير لمهرجان الأغنية السورية في حلب ،ثم أصبح نقيب الفنانين التشكيليين ثم رئيساً لاتحاد الفنانين التشكيليين حتى رحيله .وخلال حياته كان عضو تحكيم لكثير من الفعاليات وأشرف على العديد من المعارض.
شهادات خاصة
وضم الفيلم أيضاً لقاءات متعددة لأصدقائه المقربين مثل د.علي السرميني الذي تحدث عن صداقته الطويلة مع د.حيدر وأخلاقه الحميدة ورهافة حسّه وتهذيبه وجمال رفقته ،كما تحدثت د.ملكة أبيض عن علاقته القوية مع الشاعر الكبير سليمان العيسى فكان حاضراً معهما دائماً كأنه الابن الحقيقي لهما في كل الأوقات ،وبدت علاقته العاطفية بهما واضحة في لوحته التي رسم فيها الشاعر الكبير وكذلك لوحته التي رسم فيها د. ملكة أبيض.كما تحدث كثيرون عن جوانب إنسانية في حياته ،فكان موضوعياً في حكمه على الأعمال أثناء عمله في لجان التحكيم وحاول أن يساعد كل من يحتاجه. وانتهى الفيلم الذي قامت بإعداده الإعلامية إلهام سلطان وإخراج المهندس فراس قنوت وبصوت الإعلامي جمال الجيش بعرض أجمل بورتريهات الراحل وأجمل لوحاته.
رفيق الدرب
في القسم الثاني من الحفل شارك عدد من الشخصيات بكلمات صغيرة تصف العلاقة التي جمعتهم بالراحل ،فألقى معاون وزير الإعلام معن حيدر كلمة وزارة الإعلام ومنها: كان د. حيدر أخاً وزميلاً ورفيق درب أمضينا معاً ما يقارب ثلاثين عاماً ،ترك لنا الكثير من الذكر الحسن ،وقد بدأنا العمل في مطلع الثمانينيات في الهيئة ولم أجد من لهفته وحسن معشره وحبه للوطن وابتسامته التي تنم عن سريرته، ترافقنا في الوطن والسفر واكتشفت أن معدنه النادر.. الرحمة لروحه ولشهدائنا الأبطال.
شاعر اللون
وألقى د.إحسان العرّ كلمة اتحاد الفنانين التشكيليين قال فيها: الدكتور يازجي هو نسغ الحياة المتجددة ،وتجربته الفنية متميزة واستثنائية لاسيما لوحته البانورامية عن حرب تشرين التحريرية ،نلمس فيها الفنان الواقعي العالم بانتصار شعبه ،وتبدو قيمة أعماله في التوليف بين الفن ومحاكاة السمات الإنسانية ،وأغلب أعماله بُنيت على البنية اللونية والخطية مما يجعلنا نقول: إنه شاعر اللون وتبقى لتجربته نكهة خاصة في التشكيل السوري وقد أصاب في المواضع الوطنية والإنسانية والاجتماعية مما ينم عن روح فنان خلاق.
ثمرة بين الأشجار
وتميّز حديث الفنان أنور الرحبي بارتجالات أدبية عاطفية تبوح بسيل من الذكريات والمواقف المؤثرة التي جمعتهما كزملاء وأصدقاء ،فطغت على كلمته الروح الشاعرة ووصف الفقيد بالثمرة بين الأشجار وأنه أرّق من الماء شفيف وخجول. وفي نهاية كلمته تحدث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بالراحل قبل وفاته بيومين حينما همس في أذنه قائلاً لاتنساني ولن أنساك.
رسالة حنين
وفي القسم الأخير من الحفل ألقى المخرج السينمائي رياض رعد قصيدة رثاء للراحل الكبير ،وألقت ابنته لواء كلمة آل الفقيد التي اتخذت شكل رسالة مفعمة بالأنين والحنين تخبره فيها عن حضوره الدائم رغم غيابه وشكرت المحبين الكثر الذين جاؤوا للمشاركة في “تأبينه” كثُر من جعلوني أحس بأنك أبوهم بطرق مختلفة نتبادل العزاء ذاته وتفاجئنا الأعين التي لاتصدق غيابك.
واختتم الحفل بتوزيع كتاب بعنوان (الإنسان والفنان) تأليف الفنان أنور الرحبي ضم مقتطفات من حياته ولوحاته ،وبافتتاح معرض استعادي للفنان الراحل ضم عدداً كبيراً من لوحاته تحوّل إلى ملتقى الفنّ والثقافة كما كانت كل ملتقياته ومعارضه فكأنه في مماته كما كان في حياته ،وستبقى ابتسامته ملاذاً لنا وملجأً نحتمي به
ملده شويكاني