كيف تواجه الحكومة الأزمة التاريخيّة؟
لم يكن المشهد الاحتجاجي بريئاً ولا وطنياً صِرفاً، إذ استبدّ به منذ بداياته وعبر سيرورته الإسلامُ السياسي والغرب والرجعية العربية، فبدأ بتدمير الحدود والمؤسسات والجيوش الوطنية تحت شعارات سرعان مااتضح أنّها زائفة، فالتغيير والإصلاح المنشودان كانا مجرد شعار رعته عواصم البترودولار المعادية تاريخياً للقضايا المصيرية الوطنية والعربية.
وكانت مسارعة القيادة إلى امتصاص الصدمة الأولى باللجوء المباشر إلى التغيير فيما استقر من قوانين ودساتير ووزارات، ليتضح مباشرة أنّ المطلوب ليس التغيير المقترن بترسيخ الإصلاح والوحدة الوطنية والعيش المشترك، بل التغيير المقترن بنظرية «الإطاحة» وفق مفهومات جين شارب وبرنارد ليفي وابن ثاني وابن سعود والعثمانيّة الجديدة.
فلم يكن «الحكم الرشيد» – على حد مصطلحات العولمة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي – هدفَ المحتجين الذين سرعان ماتسرّب منهم أعداد ليست بالقليلة لتشكل نواة «الإرهاب الجوّال والعابر للحدود»، فكان الهدف هو هذا الواقع والمصير المؤلم الذي يعيشه العرب والمسلمون في عالم اليوم.
هذا ماأدركته القيادة السياسية السورية منذ الأيام الأولى، وما عبّر عنه الرئيس الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب في 30 آذار 2011 بقوله:«نحن مع الإصلاح ومع المطالب المحقّة… لكن لا يمكن أن نكون مع الفتنة». وبعدها بدأت الدولة بتنفيذ خطوات مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي الشامل… وبسلسلة متتابعة من التغيير والتعديل الوزاري، والعفو والحوار والمصالحة والتسوية… إلخ. ومع كل إجراء وطني لمعالجة الأزمة ودرء الفتنة كانت خيوط المؤامرة الخارجية تشتدّ حبكتُها في الداخل.
والسؤال: هل نجحت الحكومة السورية في مواجهة هذه التحديات، وهل تمكّنت من استثمار الموارد والطاقات المتاحة «الباقية» للتصدي لهذه الأزمة التاريخية؟
– في الواقع، فرضت الأزمة أنواعاً جديدة من المواجهة لم يعد يكفي معها صمود الجيش الوطني وحده من جهة، ولا ترقّب السلطة التنفيذية نتائجَ التدويل السياسي، أو مبادرة دي ميستورا، وزيارة المعلّم إلى موسكو… من جهة ثانية. فهناك عوامل قوة داخلية هي طاقات متاحة وقابلة لاستثمار أفضل يعزز الصمود في الميدان العسكري والاجتماعي، وبالتالي السياسي.
– وتحتلّ المسألة الاقتصادية بشقّيها المعيشي والخدمي أهمية كبيرة لمواجهة هذه الأزمة، ولاسيّما أنّه من الواضح أنّ تعثّر التنمية والاستثمار ليس ناجماً عن نقص الموارد، وإنّما عن قصور الإدارة في توظيف الموارد المتاحة التي لاتزال كبيرة في ظل الأزمة، وعلى سبيل المثال فإنّ المساحات الواسعة والمستقرة أمنياً ومطَرياً في سورية تزيد عن مساحة هولندا والدانمارك معاً، وبإمكانها كجغرافيا طبيعية وبشريّة تلبية مايزيد عن احتياجات الوطن في الزراعة بشقّيها النباتي والحيواني، وفي الصناعة بشقّيها المتوسط والصغير، وهذا عامل مهم في الرهان على تقوية سعر صرف الليرة السورية، وهو أهمّ من تشذيب العلاقة بين الإدارة النقدية ورجال الأعمال لمواجهة انهيار سعر الصرف، هذه العلاقة التي غالباً مااستفاد خلالها التجار من الدور التدخّلي للدولة.
– ولسورية تاريخٌ عريقٌ في هذا المجال، فقد انخفض مثلاً سعر صرف الليرة مقابل الدولار عام 1985 من 3.95 إلى 18 فأصدر القائد المؤسس حافظ الأسد القانون /24/لعام 1986 ووجّه بمبادرات «الاعتماد على الذات» التي نفّذتها الحكومة والنقابات، فاستقر سعر الصرف بعدها على 46.5 حتى آذار 2011. وكذلك كان الدور التدخلي المتميّز للحكومة في السياسة المصرفية عام 2006 إثر مانجم عن سياسات إقليمية ودولية عقب اغتيال الحريري، فسرعان ماحُسمت المواجهة بين المصرف المركزي والرأسمال الوطني لصالح الشعب والدولة، وتوقّف الطلب الزائد على العملة الصعبة.
– إنّ انحسار الطاقة الإنتاجية الوطنية مبرّرٌ في بعض المناطق، وغير مبرّر في مناطق أخرى، ولاسيّما أنّ الكتلة النقدية اللازمة للإنتاج السلعي الضروري متوافرة في القطاعين العام والخاص، لكن مايحدث هو أنّ إبقاء المعروض النقدي أكبر من الإنتاج السلعي أدى إلى إضعاف الليرة، وإلى القلق وعدم المبادرة إلى التوظيف الاستثماري للرساميل المحليّة حتى عبر الأدوات التقليدية، فتضاءل استثمار الأرض والإنسان والنقابات المهنية… بانتظار الإنجاز السياسي والحسم العسكري.
< لدى القيادة السياسيّة مؤشرات أنّ هذا الانتظار قد يطول، فلا بد للحكومة من «تمكين» الدولة والمجتمع اقتصادياً، خاصة أن معالجة الأزمة بمصادرها الخارجية لا تنجح إلا بردّ داخلي هو زيادة الناتج المحلي. في هذه الزيادة تكمن الإجابة على التحدي.
د. عبد اللطيف عمران