مهرجان الشعر في المزة محاولة لكسر برودة الأجواء
حدث في الأيام السابقة أن كسر المركز الثقافي في المزة روتينية البرامج الثقافية المتوالية بذات العناوين والموضوعات، وأقام مهرجاناً شعرياً استمر أربعة أيام التقى فيه الكثير من الشعراء المشاركين والضيوف، وكان من المفترض أن يكرّم الشاعر الكبير فايز خضور في اليوم الخامس لولا عارض صحي أصابه، ونرجو الله أن يشفيه منه بأقرب وقت.
بدأ افتتاح المهرجان مع الشعراء صقر عليشي، هيام منور، كمال سحيم، وانتهى مع الشاعرين ليزا خضر ومحمد سعيد حسين اللذين تناوبا على قراءة قصائدهما فكانا أشبه بعزف ثنائي على أوتار المشاعر المندمجة في عالم شعري حقيقي، عماده الخيال والمجاز والجدية، وكأنهما أتيا من البحر وحملا أعماقه وفضاءه المتلون. في اليوم الثاني كانت المحطة للشعراء مرهف زينو، محمود حامد، نزار بريك هنيدي. واليوم الثالث للشعراء محمد عيسى، صالح سلمان، صالح هواري. وكلهم من الشعراء الكبار الذين أثمرت تجاربهم العديد من المؤلفات الشعرية، وكل له صوته الخاص الذي نحته بعرق جبينه وقلمه وروحه المتأهبة المحترقة.
لم يتسن لي حضور كل الفعالية لذلك سأتوقف عند المحطات التي استطعتُ الوقوف عندها في اليومين الأول والأخير لهذا المهرجان الشعري، والنتيجة التي وصلت إليها هي الغبطة الروحية، وأستعير هذا التوصيف من الشاعر والناقد الانجليزي كولردج الذي قال: الغبطة الروحية هي النتيجة التي تترتب على تلك العملية التي لن أصفها بأنها خداع بريء، إنما أقول أنها عملية السمو بذواتنا وفقداننا لها في موسيقا أسمى الأفكار، فالشعر ليس تقليداً للواقع بل رؤية روحية.
من هذا القول لكولردج ننتقل إلى الشاعر الكبير صقر عليشي الذي قرأ بضع قصائد وهي (الغزال، وفي فن القول التي تندرج تحتها عناوين: قالت المرآة، قالت البصلة، قال السر، قال الشاعر) وكلها تمثل عملية السمو بذواتنا، بل وتذكرني بالشاعر بودلير الذي قال: إن الأشياء لا قيمة لها في حد ذاتها سوى أن تعطي الفنان الفرصة لكي يتأمل نفسه أثناء رؤيته لها. نستشهد بهذا المقطع من( الغزال):
“وراقبته بالسّر/من خلف صخرتي/وأسرف في الإعلانِ/ من فوق صخرتِهْ/أطل، وخلّى الغيمَ خلفيةً لهُ/وحث طيوراً/للدخولِ بلوحتهْ”
الشاعر هنا لا يضع نصب عينه وصف الغزال فحسب، فهو يبدأ القصيدة هكذا: غزال المعاني مرّ من بعد غيبتهْ يوزِّع عن يسراهُ زهواً، ويُمنتِهْ.. هو يسرح إذاً في معاني الوجود، في مضامين خلق الحياة ومن ضمنها الأفكار واللحظات وحتى التفاصيل الجامدة التي لا تحيا إلا إن أردنا لها الحياة. هو يخلق الجمال في الأشياء بقدرة شاعر مخضرم، إذ يقول:
“يفيض به عَدْوٌ/فإمّا لمحتَهُ/تيقنت أنّ الريحَ/بعضُ سلالتهْ”
وبالانتقال إلى المقاطع المنضوية تحت فن القول نتوقف عند (قال الشاعر) إذ جعل المسؤولية الأولى للشاعر هي التفكير والغوص في أعماق الحياة وألغازها واحتضان جوهرها بما يرفعه إلى مرتبة الفيلسوف والفنان الذي يعيد صنع الجمال ويفككه بذات الوقت، فهو الجامح الحالم برأيه:
“شربتُ السرَّ حتى شفَّ طيني/ولم أترُكْ بقايا في وفاضِهْ”
“إذا امتعضَ الفضاءُ لوسع خطوي/مشيتُ وما التفتّ إلى امتعاضِهْ”.
الشاعر الثاني الذي سنتوقف عنده قليلاً قدم إلينا من طرطوس ومعه حقائب من الأمواج التي تجلب أشواق أناس يطوفون ويغرقون فيه ليحييوا. الشاعر محمد سعيد حسين قرأ عدة قصائد تحت عنوان نصوص القلب والجنون منها (عدت يا يوم مولدي) حيث لا يحتفل فيها بنفسه ولا يضيء الشموع ليرى في رقص كل واحدة ذكرى جميلة، بل يقع عليه العمر كالحمل الثقيل الذي يجره صاحبه بالمزيد من الأحلام المصلوبة على خشب والمرشحة لأن تبلغ الخمسين جرحاً:
لماذا عليّ أن أعدّ كؤوسَ العمرِ ولا أسكَر؟!
أرتّبَ نوايا الغدِ على رفوف الكسَلِ
وأُبرِقَ لتسعةٍ وأربعينَ كابوساً مضينَ
مبشّراً بيوبيليَ الخَشبيّ..
وفي قصيدة( يتم) يتلبس روح عاشق يحتفي بالنار حتى لو كانت ماهرة بإحراقه عطشاً وشوقاً، ويدرك جيداً كيف يتوسد العاشق ذراع حكايته متوسلاً الطفولة من أنثى هي أم بالضرورة، لكن هكذا هو الأمر: اليتم مصيره ، والنار لا تحرق سواه:
حين اقتطفتُ من شفتيك
تلكَ القبلة..
اكتشفتُ كم كانت علاقتي بالنّار
ملتَبَسة
حتّى ظننتُني
ربّ النّار ..
سنحط الرحال أخيراً عند الشاعرة ليزا خضر ولا نبالغ حين نقول كان الختام مسكاً معها، إذ لا تكتب ليزا كلاماً عادياً ولا تستسهل ولا تضع العواطف في صحن تحليه، بل تشتغل بجدية على التأمل، والخيال عندها معقود مع الوجدان في جديلة طويلة، منطلقة من الذاتي وهو جذر الشعر متفرعة بالمعاني والمجازات إلى الإنساني عامة والسوري المتأزم هذه الأيام:
“ليتني أخفيتُ الحربَ عنكَ/ في جيب رأسي/ونزّت بعيداً عن دفاترك/أبعدتُ الرصاصَ عن شرودكَ/بندقيةً..بندقية/لكني حالما أفتحُ أيادي الصغار كي/آتيك بالحلوى/تطالعني الأماني المقتولةُ/والعرقُ الحزين/أتأخرُ/وأنا أجمعُ هوامشَ النشيج/وألوّنُها كي نلعبَ نهاراً بلا أحمرَ/وأغسلُ لهم بقيةَ ليلٍ بلا قنابلَ”.
سوزان الصعبي