الإنفاق الأسري والمؤسساتي بين عمليّتي الضرب والقسمة
يخطئ من لا يقرّ بأن كثيراً من الإنفاق الأسري والمؤسساتي لامس البذخ والهدر، قبل أربع سنوات خلافاً للعديد من الطروحات التي عمدت إلى إبراز وتضخيم بعض حالات الفقر، ولكن كثيرين من الذين كانوا ينكرون ذاك الرفاه، بدؤوا يستشعرونه اليوم، وصحَّ فيهم المثل القائل “لا تشعرون بقيمة النعمة حتى تفتقدوها”، فحجم توفر السلع بجميع أنواعها تناقص، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً كبيراً، بحيث يندر أن يقل الحد الأدنى لكثير من السلع عن أربعة أمثال ما كان عليه بداية الحرب العدائية ومنها معظم أنواع الحبوب، وكاد الحدّ الأعلى يتجاوز عشرة أمثال العديد من السلع (منها المازوت و….)، ما يوجب أن تعمد الأسر والمؤسسات –مختارة أو مكرهة- إلى خفض الاستهلاك بما يتناسب مع واقع الحال، ولكن من يتمعّن في الواقع، يتضح له بشكل جلي أن كثيراً من الاستهلاك لم ينخفض بالحجم الذي يتناسب مع مقتضيات الحال، والانخفاض الذي حدث –على قلته قياساً إلى ما هو مطلوب- كان نتيجة الإكراه والتوجيه الملزم أكثر مما كان نتيجة الاختيار اللازم، خلافاً لما تتطلبه الناحية الوجدانية وتقتضيه المصلحة الأسرية والمؤسساتية.
من المؤكد أن بعض أرباب الأسر ومديري المؤسسات عمد إلى الحد من الإنفاق، ولكن كثيراً من هذا الحدّ في غير محله، فهو يطول الأساسيات التي تهم الأسرة في حياتها اليومية أو المؤسسة في عمليتها الإنتاجية، ولا يطول الحاجات أو الكماليات التي تخص رب الأسرة أو بعض أفرادها، أو المدير أو بعض من يدور في فلكه، فلا يزال بعض أرباب الأسر يصرّون على شراء علبة سجائر قبل حاجات أكثر أهمية للأسرة، وأيضاً لا يزال بعض أفراد الأسر يصرّون على استهلاك هذه المادة أو تلك، رغم أن نفقات استهلاكها تفوق نفقات مادة الخبز، غير مبالين بإمكانات رب الأسرة، وأيضاً لا يزال مدير هذه المؤسسة أو تلك يرى وجوب عدم حصول أي نقص فيما كان يحصل عليه من مزايا خاصة، ولكنه يباهي مرؤوسيه بحرصه على الحدّ من الإنفاق فيما يخص القليل من مزاياهم، بل يعمد إلى الحد من متطلبات أداء عملهم الإنتاجي، ولا ضير في الاعتراف بأن بعض المرؤوسين لا يراعون وجوب خفض الإنفاق متى أتيحت لهم فرص الهدر، وبعضهم يباهي بذلك تحت حجة ما يفعله رؤساؤه.
ليسوا قلة أولئك الذين لم يستفيقوا من صدمة الحرب العدائية، إذ ما زال بعض المسؤولين منشغلين بقيادة السيارة أكثر من انشغالهم بقيادة الإدارة، وكثير من الأفراد مستمرون بفتح صنبورالماء، وإشعال لمبة الكهرباء، غير مبالين بارتفاع أسعارهما، أكان ذلك في المنزل أم في مكان العمل، وهذا الحال ينطبق على كثير من المستلزمات الأسرية والمؤسساتية، وما زال كثير من الدارسين يصممون أحد المباني أو المشيدات بكلفة تزيد ما لا يقل عن ربع الحاجة الفعلية، والحال نفسها بالنسبة للأثاث والتجهيزات، وما زال كثير من الشباب والشابات المقبلين على الزواج، يدخنون الأركيلة وينتظرون عملاً وظيفياً، ويحلمون بشقة مفروشة على طراز ما قبل عام 2011، ولم تستوعب عقولهم أن عليهم أن يمارسوا أي عمل يدرّ عليهم دخلاً، وأن يقتنعوا بغرفة وسرير متى استطاعوا ذلك، فلتعمل الأسر والمؤسسات على ضغط الإنفاق الاستهلاكي لمصلحة الإنفاق الاستثماري، وعلى الذين يجمعون على أن أسعار هذه الأيام أصبحت مضروبة بخمسة أو بعشرة إضعاف ما كانت عليه من قبل، ألا يغيب عن بالهم ضرورة أن يكون حجم استهلاكهم لكثير من السلع مقسوماً على خمسة أو خمسة عشر، لا بل ضرورة الامتناع -بشكل كلي- عن بعض السلع، وخاصة أن ذلك ممكن جداً، فعلى الجميع ارتداء لباس شتوي منزلي وعملي وعدم إشعال مدفأة المازوت إلا اضطراراً، وأن يتذكروا كم أشعلوها في السنين السابقة دون حاجة، عندما كان المازوت متوفراً بكثرة والليتر بـ7 ليرات سورية فقط، لا أن يصرّ بعضهم على ارتداء اللباس الخفيف، ويشعلها بما توفر لديه من مازوت، أو يعيث خراباً في الغابات إن أمكنه ذلك، ويتبجّح باتهام السلطات الرسمية بعدم إغداقها كل ما يشتهي ويريد، وحالة المازوت تنطبق على كثير من المواد التي يمكن الاكتفاء بقليل منها أسرياً ومؤسساتياً.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية