المحروقات وحروقها
لعقود مضت، نحرق المحروقات بشيء من البذخ والهدر لاستخدامات شتى، نظراً لانخفاض سعرها، وهي تحرق الميزانية العامة للدولة، نتيجة استفادة ذوي الدخل العالي -من لا يحتاجون إلى الدعم- بنسبة أكثر بكثير من استفادة ذوي الدخل المنخفض، نظراً لاستهلاكهم كميات كبيرة من المحروقات، ناهيك عن استفادة غير السوريين بنسبة كبيرة من هذا الدعم، أكان المقيم في سورية أو العابر فيها، فضلاً عن سكان دول الجوار المستفيدة من التهريب، واستفادة المهربين من المبالغ الكبيرة التي حصدوها بالكسب غير المشروع.
الغريب في الأمر: أين كان أولو الأمر من آراء كثير من المفكرين المهتمين بالشأن العام، أصحاب الرؤى الاقتصادية المنطقية الإيجابية من اقتصاديين وإعلاميين، الذين أشاروا إلى ضرورة إعادة النظر في الاستفادة من الدعم، مراراً وتكراراً، عبر أكثر من وسيلة ومنبر، وليس هناك من يسمع وينفذ، واستمر تكرار تخصيص نسبة كبيرة من الميزانية لمصلحة الدعم بالطريقة نفسها المعتادة سابقاً، إلى أن تبيّن أن بسط اليد كل البسط، أوصلنا إلى أن نجدها –مكرهين- مغلولة إلى عنقنا، فقعدنا ملومين محسورين، متحسِّسين أن الندم بعد الفوت أمرّ من الموت.
ما نشهده من وقائع حالية، يبيّن لنا أن المحروقات التي حرقناها سابقاً -نتيجة توفرها وانخفاض سعرها- يوم الرخاء والدفء والحر، حرقتنا يومئذ نتيجة بذخنا وهدرنا، لما كان يجب تخصيصه حينئذ للاستثمار، وتحرقنا اليوم ألماً وحسرة في أيام البرد هذه، نتيجة قلتها وارتفاع سعرها، فالعديد من المستهلكين لا تتوفر بين أيديهم كمية ولا قيمة ما يلزمهم للتدفئة الضرورية، أيام البرد القارس، رغم ارتدائهم ملابس الشتاء منزلياً، مستذكرين ما كانوا يفعلونه سابقاً أيام كان يشعلون المدفأة دون برد يذكر، ويجلسون حولها مرتدين لباس الصيف، وكثيرون يشكون من ارتفاع أجور النقل لمتطلبات السفر الضروري، متحسِّرين على ما كانوا ينفقونه سابقاً من أجور، على كثير من السفر غير الضروري لزيارات ورحلات، والعديد من المنتجين يعانون لإيجاد حاجتهم من المحروقات التي تلزمهم لتغطية بعض متطلبات السوق المحلية، قياساً إلى ما كان متوفراً لهم، يوم كانوا يعملون لتلبية متطلبات السوق التصديرية.
الحسرة الكبير ة تتجلى الآن في استمرار ضعف اتزان السياسة الاقتصادية الإدارية بشأن المحروقات، بدليل الآتي:
– وجود خلل إداري ملحوظ في تنظيم توفر بعض مواد المحروقات في أسواق هذه المنطقة أو تلك، وخاصة فيما يخص حاجة التدفئة.
– اعتماد أكثر من سعر لمادة المازوت (سعر مستلزمات الأفران – سعر مستلزمات السيارات العاملة داخل المحافظات – سعر مستلزمات السيارات العاملة خارج المحافظات – سعر مستلزمات المؤسسات الإنتاجية والإنشائية والخدمية بأنواعها العامة والخاصة والمشتركة والتعاونية – السماح لمنشآت القطاع الخاص باستيراد المحروقات من البحر ومن ثم عبر البر)، ما يجذر السوق السوداء الموجودة.
– رغم مضي أكثر من أربع سنوات، على الترويج لاستخدام البطاقة الذكية لدى الجهات العامة، لترشيد استهلاك الآليات الحكومية من المحروقات، ما زالت العديد من هذه الجهات تتحفظ -تحت أكثر من حجة- على نظام استخدام البطاقة، رغم محاولة التفعيل التي تمت قبل أشهر قليلة، وأظهرت توفير 300 ألف ليتر من المحروقات لـ 10 آلاف آلية وخلال شهر واحد فقط (حسبما ورد سابقاً في الصفحة الاقتصادية من صحيفة البعث).
– التردّد في اعتماد الآليات والمنشآت لبطاقة التزوّد بالمحروقات -كما سبق أن عملت به محافظة ريف دمشق (حسبما ورد في صحيفة البعث مؤخراً)، رغم جدوى مثل هذا الإجراء، في هذه الظروف، حيث يضمن صرف الكمية في الغاية التي استجرت من أجلها.
– هجمة القطاع الخاص لإحداث محطات محروقات جديدة، واستثمار إحدى محطات الوقود في دمشق بـ100 مليون ليرة سورية لمدة عامين فقط (حسبما ورد في صحيفة البعث مؤخراً)، رغم انخفاض الربح الرسمي المخصص لكل ليتر، ما يؤكد وجود ربح كبير غير مشروع عبر التهريب والسوق السوداء وحالات الغش من خلط للمادة أو تلاعب بالعداد، وخاصة أنه تم رصد بعضها في أكثر من زمان ومكان.
ولكن الأمل معقود –رسمياً وشعبياً- على انفراج موعود، من خيِّري الجهود.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية