اقتصادتتمات الاولى

الآمال معقودة على تلافي أخطاء الدورة الماضية نفحة تفاؤل بنتائج انتخابات غرفتي التجارة والصناعة الأخيرة.. والاختبار خير برهان

لا نخفي تفاؤلنا بما أفرزته نتائج انتخابات غرفة تجارة دمشق أمس الأول، وقبلها انتخابات اتحاد غرف الصناعة الأخيرة، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بأن هذه النتائج تمخّضت عن أسماء أقل ما يقال عنها (أنها لم تغادر البلد أسوة بغيرها، بل آثرت البقاء والعمل تحت أصعب الظروف وأقساها في تاريخ سورية المعاصر).
أيام الرخاء
قبل الأزمة كان يدهش -وللوهلة الأولى- من يدخل فنادقنا المرصّعة بالزخارف المخصّصة واللائقة بطبقة الـVIP بعدد مرتاديها، وخاصة أثناء انعقاد المؤتمرات الاقتصادية، من رجال أعمالنا المحليين، الذين كانوا لا يوفرون وسيلة أو فرصة لاستعراض ذواتهم أمام كاميرات الإعلام والصحافة، وعلى مرأى الحضور، لأسباب ربما تتعلق بإرضاء غرورهم، أو للفت انتباه رؤوس هرم سلطتنا التنفيذية عسى أن يتمكنوا من إبرام ما يستطيعون من الصفقات والحصول على أكبر قدر ممكن من الامتيازات الحكومية، لكن وفي أول امتحان لصدق نيّاتهم سرعان ما كان يتلاشى أو يتلطى هذا الكم وراء مبررات جوفاء من قبيل ارتفاع تكاليف الإنتاج والرسوم الجمركية، وتذبذب سعر الصرف، وغير ذلك من العوامل التي لم تساعدهم على تحقيق التزاماتهم لقاء ما حصلوا عليه من امتيازات، مبررات كان يراها بعض المراقبين محاولة للتخلص مما يتوجب عليهم القيام به تجاه بلدهم.

امتحان
ولعل الأزمة الحالية تعتبر أول وربما أهم اختبار يكشف حقيقة رأس مالنا الوطني ورواده الذين لم يتوانَ عدد منهم لحظة شعورهم بالخطر على ثرواتهم واستثماراتهم عن اتخاذ قرارات سريعة دحضت كثيراً من مزاعمهم بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وما تسريح العمالة -ومعظمها غير مؤمّنة اجتماعياً- والهروب للاستثمار في الخارج، إلا دليل دامغ على نكران الجميل، وإيمانهم المطلق بمبدأ (رأس المال جبان) الذي على ما يبدو بات منهجاً رئيساً في عملهم، دفعهم إلى البحث عن أسواق جديدة يمكن أن يحققوا فيها طموحاتهم المالية غير المحدودة والتمتع بمزيد من الاستقرار والميزات التنافسية في عدد من الصناعات لضخّ استثمارات جديدة فيها، بهدف الاستمرار من خلالها في دوران عجلة إنتاجهم.

لوم وردّ
أحد كبار تجار دمشق ألقى اللوم على إعلامنا الوطني أثناء حديثنا معه عن دور رجال الأعمال في هذه المرحلة بقوله: “كفاكم جلداً للتجار والصناعيين الذين يعملون ليل نهار دعماً للاقتصاد الوطني، فهؤلاء يستحقون بطاقة شكر يومية لما يقومون به من جهود مضنية في ظل المنافسة القوية التي تواجه الصناعة السورية..”.
ونردّ على هذا الكلام بقولنا: هل تسريح عشرات الآلاف من العمال من منشآت القطاع الخاص خلال الأزمة يستحق الثناء؟ أم أن التهرّب الضريبي الذي تخطى 200 مليار ليرة حسب بعض التسريبات يملي على الحكومة والمجتمع أن يرفعا بطاقة شكر وامتنان، بل إعطاء رجال أعمالنا مزيداً من الامتيازات كي يعظّموا من ثرواتهم للاستثمار بها خارج البلاد؟.

لهم الأولوية
بالعودة إلى نتائج انتخابات غرف التجارة والصناعة، نعتقد أن الفائزين بها ورغم تحفظ بعض الناس على أداء عدد من الأسماء خلال الدورة الماضية، هم الأَولى بالمزايا الاستثمارية التي تتمتع بها بلادنا، وعلى سلطتنا التنفيذية أن تضع هذا الأمر بالحسبان، وأن تتلافى أخطاءها الماضية في هذا الجانب أيام الرخاء والاستقرار، عندما كانت تجهد لجذب مستثمرين استنزفوا مُقدّرات البلد دون أن يردّوا ولو جزءاً مما منحتهم من تسهيلات استثمارية، تماماً كمزارع يستنزف خيرات أرض خصبة بزراعات على مدار مواسم متتالية دون أن يغذّيها بما يلزم من أسمدة ومواد عضوية فتتحول إلى أرض قاحلة، ويبحث المزارع بدوره عن أخرى أكثر خصوبة، ولعل من المناسب هنا أن نستذكر ما قام به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد خلال أزمة المضاربة في تسعينيات القرن الماضي التي قام بها رجل الأعمال الأمريكي جورج سيروس في محاولة منه لضرب الاقتصاد الماليزي، حيث لجأ رئيس الوزراء آنذاك إلى منع المستثمرين من مغادرة بلاده لمدة عام كي يستعيد الاقتصاد عافيته، وبعد انقضاء فترة المنع فتح المجال لمن يرغب من المستثمرين بمغادرة البلاد، فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن قرارهم السابق وآثروا البقاء ومتابعة الاستثمار في ماليزيا.

مقصدنا
نُقدّر عدم مغادرة هؤلاء الفائزين بانتخابات الغرف البلاد، ومحاولاتهم دعم اقتصادنا الوطني، ولا نقصد من تناولنا هذا الموضوع التجني على رجال أعمالنا من التجار والصناعيين الذين غادروا البلاد والنيل منهم، وإنما القصد هو الوقوف على ما تحتّمه المرحلة الراهنة من التزامات لا بدّ من الاضطلاع بها كل حسب موقعه، ولاسيما أن شريحة قطاع الأعمال حصلت على امتيازات ضريبية أبرزها ما لخّصه الدكتور محمد خير العكام المتخصص بالمالية العامة والتشريع الضريبي بقوله: إن التشريع الضريبي يخدم رجال الأعمال أكثر مما يخدم ذوي الدخل المحدود، على اعتبار أن المشرّع زاد معدلات ضريبة الرواتب والأجور فرفعها بالشريحة الأخيرة من 15% إلى 20% وهذا على حساب العدالة الضريبية، بينما معدلات ضريبة الأرباح انخفضت من 66% عام 1949 إلى 45% عام 1991 ومن ثم إلى 35% عام 2003 لتنخفض عام 2006 إلى 28%، في حين معدلات الرواتب والأجور انخفضت بدلاً من أن ترتفع وهذا على حساب العدالة.

ما حكّ جلدك
مرت فترة طويلة على سورية كانت الحكومة فيها بمنزلة الأب الذي يرعى المواطنين والمنشآت الاقتصادية عبر دعمها للمحروقات وغير ذلك من وسائل الدعم التي كانت تقدّمها لقطاع أعمالنا، واليوم تعيش سورية مرحلة حرجة تستدعي أن تكون فعاليات هذا القطاع على قدر كبير من تحمّل مسؤولياتها، لا أن تهاجر بعد أن قطفت ثمار امتيازات ما كانت لتحققها في كثير من دول العالم، وخاصة تلك التي نشأت وترعرعت من ألفها إلى يائها في ظل حماية ورعاية حكومية، وللإنصاف نذكر أن بعض رجال أعمالنا ممن لمعت أسماؤهم وشهرتهم الاقتصادية في بلاد الاغتراب، لم يتنكروا لبلدهم في ظروفها الحالكة فقدّموا مبادرات إنسانية وخدمية للمتضررين، وأملنا معقود على الأعضاء الجدد في اتحادات غرفنا التجارية والصناعية، وخاصة لجهة التعاطي مع هذه المرحلة بجدية وتلافي الأخطاء السابقة، والعمل بالدرجة الأولى على تأمين احتياجات أسواقنا بأسعار منطقية، وتوفير فرص عمل لشريحة الشباب على اعتبار أنه (ما حكّ جلدك مثلُ ظفرك)، فتهانينا الحارة لجميع الفائزين.
دمشق – حسن النابلسي