ثقافة

رائد خليل في “سيَّجتُ دمعي ببكائك” سَـيـَّجَ للـحـَرْفِ مَـا يـَصـونُ فَـضَـاءاتِه

أن تتحدث عن رائد خليل في تأملاته الملونة، يعني أن تحضرك ألوانه، وحروفه معاً، فهو بالقدر الذي أمتعنا بأسلوبه الفريد في لوحاته، استطاع، وبيسر، أن يجذب أرواحنا لقراءة تأملاته، ولئن انتهى أحدهم إلى تشبيهه بأحد، فلن يخرج إلا بنتيجة واحدة: رائد خليل لا يمكن أن يشبه إلا رائد خليل، صنعته في مسك فرشاته، مدّته بقدرة ملحوظة على تطويع الحروف في استنباط الجديد، وخلق اللوحة داخل القصيدة، والعكس صحيح، ولئن ابتعد رائد خليل عن تصنيف ما يكتبه تحت مسمّى الشعر، فله كل الحق في ذلك، كان له ما أراد، ولنا ما شئنا أن نعتبره.
وكما هي فرشاته طيّعة في خلق تمايز في ألوان لوحاته، ومضامينها، فكذا الحال بالنسبة لتأملاته، إذ لن يجد القارئ صعوبة في فهم، وإدراك ما يريد رائد خليل أن يوصله عبر حروفه، ولكن لا شك في أن تأملاته تلك من السهل الممتنع، وهذا ما حقق له الفرادة، والتميّز في اقتراف الحروف، وإتيان فعل الكتابة، كالرسم على ماء الروح بكلمات تحفر في العمق لتبقى.

الأنا عند رائد خليل
الأنا في تأملات خليل ليست واحدة، ولا يمكن أن تكون بحال واحدة، الأنا هنا تختلف في ظهوراتها، فهي البسيطة، المتناقضة، القاسية، المؤنبة، المُتحسِّرة، المتفاخرة، الحزينة، النادمة، المعطاءة، والعاشقة، باختصار إنها الأنا الحياة التي وهبت نفسها للجمال، رغم كل ما يعتمل فيها، وما تظهره من تناقضات، واختلاف حال، وهذا لا يمكن استغرابه عند فنان بحجم رائد خليل.
كيف يصرخ الصدى/ وأنا المكنى بأحجية الوديان/ رائد على محمل الوقت/ مغرور كنكهة الحانات/أنا من جعل السجود يقف / ولوى عنق الطاعة/ ودوَّن تاريخ رضابه بأقلام أصابعك/ اعترفي أني أنجبتُ ذرية رعش، أعادت توازن الكون.
كما تبدو محاولاته المستمرة لتأكيد حضوره الطاغي من خلال ممارسته الغواية اللفظية التي يدلل بها على أنه هو وليس أحد غيره، الملاذ الآمن لمن يهواها، فيعبّر عن توقه لملاقاتها، وهنا يؤكد الثقة المؤدلجة حسب ما يريد، ليثبت أنه حيث يكون، فلابد أن يوفر الأمان لمن ترافقه.
.. وفي الجهة المقابلة لسيرتي/ اعتراف صريع/ دحرجه صراخ المكان/ أواه.. ما أحلاك يا رائد / كلما انزويت/ أصيبت الحقائب بالكآبة/ واحتضرت المحطات.
يبدو رائد خليل في تأملاته حانياً على الكون، بعناصره، ومكوناته، بطبيعته.. ظاهر تكوينها، وتلك الكينونة الخفية التي تبدو عصية على الإمساك بها من قبل الكثيرين.
يُحكى أني ما مررت بحقولكم يوماً/ إلا وانحنت سنابل البهاء/ يُحكى أني سيّجتُ أزمنتي/ وقلعتُ جنون الحطام والبلاء.
كما يبدو مُشفِقاً على نفسه في كشف أسرار ربما لم يكن ليبوح بها إلا في تأملاته هذه، مُصرِّحاً بما يكشف عن موقفه من الحياة وما فيها، وتمرُّده المستبد على ما يخالف نظرته، وحقيقة انطباعاته المتكونة من معرفة ودراية بأسرارها.
دعيني أكمل نصي/ قنديلي زيته مخنوق/ المغفرة.. المغفرة/ ثمة أنين يلتصق بي/ حيرة تؤجج مناسك حبري.
يصور صاحب “أنا مع حفظ الألقاب” حالة توق حارة إلى انصهار الوجد، واقتناص الرغبات، ليعلن خلعه لأسمال تبعده عن الوصال مع الحبيبة.
ممشوقة الوقت/ تناطحين سحاب التكتكة/ وجموع رملي مضمدة بعبور خطاك/.
يبدو ارتباط رائد خليل بالمكان، وما يمثله له قوياً، وكذا يظهر واضحاً وجلياً تقديره للزمان بسطوة حضوره في تأملاته، وعلى الرغم من وفائه لما كان في تاريخه، وماضيه، وحتى ماضي من سبقه، إلا أنه يبدو مُنجذِباً ليحيا اللحظة بكل ما تحمله.. إن تقديره لأهمية الزمن، وعدم تسليمه بالماضي لا يدع حاضره يمر دونما ترك أثر، وأيُّ أثر.
استدار الذهول/ فذكّرته بماضيه/ تأبط شرقاً/ وآخر الغروب كان قلقاً/ فحسبت أني قرع أجراس/ قال: هذي طفولتي/ فمن يلم شمل تعجبي.
إشارة واضحة المعالم في تأملات رائد خليل يمكن اختصارها بالتعبير عن قدرته في القفز فوق المتوقع ليصنع للدهشة دهشة، وفي هذه خصوصية قلّما توجد عند غيره ممن اقترفوا التأمل وأبدعوا فيه.
ربما ينتاب القارئ أحياناً أن التركيب اللفظي لدى رائد خليل مُؤطَّر بأحكام قيمية، ومحددة سلفاً لديه، لكنه سرعان ما يكتشف مع توالد المعاني، وانسياب الأفكار أن ثمة انخطافاً عاجلاً يؤازره حيناً ليتخلى عنه أحياناً لصالح النص الشعري الذي يأتي به خليل.
كما يُفاجَأ القارئ نفسه بنهايات مُباغِتة ضمن السياق العام للنص الواحد، وبمفردات لا يمكن توقُّعها، حتى لتحسبها وكأنها نتوءات لصخور ملساء تُساير تدفُّقَ المعنى، ودَفْقَ المفردات إلى حين، لتتشاكل معها بغتة، وعلى حين غرة، وبشكل غير متوقع.
أيحق ليدي/ أن ترسم في رملك/ اعتقاد الشيطان/ وعلى ابتكار المعاني/ أمرن أصابع ألواني/ أهذب صرير الغياب/ بقلم شبيه/ ترامى على سواده/ سؤال الطوفان.
ربما يبتعد رائد خليل عن تسمية نصوصه بالشعرية اتقاء الادعاء الدارج بشعرية كل نص يُكتب، وتمايزاً عن غيره ممن استرخى على ناصية النص الشعري فأصابه الخبل فيما يكتب، ربما يهرب رائد خليل من ذلك قاصداً ومُتعمِّداً أن يكون هروبه هذا نحو الأمام، وربما يبغي من وراء ذلك ألا تخضع نصوصه للتشريح، والنقد الشعري الذي ينبني على مصطلحات جامدة، ولكن لا أجدني قابلاً بفكرة أن يفوته أن ساحة الأدب، وخاصة النقد، تكاد تخلو ممن انتسب طواعية إليها، لكنه جعل القطار يفوته قاصداً ذلك.
كم يدفعنا رائد خليل للتعاطف مع من يبدو معهن رقيقاً أمام اشتهاء العبور المؤلم لمحطاتهن، يغادرهُنَّ رغماً عنه فيترك لهن ولنا قصائده وأنفاس رحيلهنَّ الموجع.
يا أصدق الخيبات/ يا أنت/ قلائد البحر على مضض تحرسك/ والماء من تحتي يسير.. يسير/ ليتني (مت قبل هذا)/ يا أصدق الخيبات/ يا أنت.
وبعد..
رائد خليل في: “سيّجتُ دمعي ببكائك” وبما سبقها من تأملات ملونة.. سيّج للحرف ما يصون فضاءاته، وترك الأمداء مفتوحة أمامنا.

نضال كرم