اقتصادتتمات الاولى

العودة لسعر صرف ثابت وإلغاء “التدخّلي” يقطعان الطريق على التكهّنات؟!

تعافي الاقتصاد السوري يدفع مغرضين للترويج لسياسة “تعويم العملة” لزعزعة سوق الصرف

اقتصادنا  في موقع ربما لا يسمح له بالتقدم نحو سياسة تعويم ولو جزئي في سعر صرف الليرة، وخصوصاً أن العملة خسرت ما يزيد على 300% من قيمتها أمام العملات الأجنبية في غضون ثلاث سنوات ونصف السنة من عمر الأزمة، ليس فقط بسبب العقوبات الظالمة المفروضة غربياً على سورية، بل أيضاً لإقدام مضاربين داخل السوق المحلية وخارج حدود البلاد على استنزاف قيمة العملة الوطنية على أنها خطوة رئيسية باتجاه تحقيق تدهور اقتصادي.
وثمة من يعتقد من المحللين الماليين أن الظروف التي تمر بها البلاد أفضت إلى إجراءات تشبه تلك المندرجة في سياق اقتصادات التحرير الجزئي “التعويم المدار” المؤدّي إلى تعويم العملة، وبشكل أدق التخلّي عن تثبيت سعر الصرف (كما كان قبل عام 2005)، والاستمرار في الوقت ذاته الإشراف على سوق العملة بطرق غير مباشرة، وهو ما يترجم عملياً بوجود سعر للعملة يتم تحديده وفق معطيات اقتصادية، وسعر صرف آخر خاص في السوق المرخصة (شركات صرافة ومصارف وغيرها..) يكون متقلباً وفق العرض والطلب.
سعر حقيقي
وفي ظل الأوضاع الراهنة غير المستقرة، لا يستقيم التعويم الجزئي وحتى التعويم المُدار “لا الحر”، الذي يسمح بالتدخل في أية لحظة، ولن يحقق ما يسعى إليه من تأمين القطع الأجنبي، في ظل استمرار تذبذب يومي في سعر صرف الليرة الذي خلّف عاملاً نفسياً يدفع بعض من يملكون العملة السورية، إلى تبديلها بالدولار أو اليورو، تجنباً للمزيد من الخسائر، وأيضاً مع تنامي الخوف من تأثيرات جديدة لعقوبات أوروبية –وغير أوروبية- جديدة على الاقتصاد السوري، أي أن هناك مستجدات تجعل سعر صرف الليرة مبالغاً فيه ولا تعطي قيمة سوقية حقيقية ومستقرة يمكن الاستناد إليها، وذلك في حال كانت اعتقادات الاقتصاديين بأن التعويم المدار هو السياسة المتبعة.
والدليل على ذلك أن جميع محاولات إغلاق العشرات من مكاتب الصيرفة وملاحقة المضاربين والمخالفين للقانون الخاص بتداول القطع، لم تحقق الغاية المطلوبة في وقف تراجع قيمة الليرة، وبالمقابل، لم تجد التصريحات حول مؤشرات تحسّن في الاقتصاد السوري وأهمها ارتفاع حجم الصادرات، تداعيات إيجابية بقيمة الليرة.

سوقان رسميان
من ناحية أخرى، أعطت كل تلك التطوّرات انطباعاً للمضاربين في سوق “الفوركس” بعشوائية الموقف، فأخذوا يبثون شائعات “تخويف” موجّهة للتجار وأصحاب الأعمال للتخلص من الليرة والاحتفاظ بالعملات الأجنبية والمعادن الثمينة.. ومع بداية النصف الأول من العام الجاري، كثر الحديث عن توجّه السياسات المختصة لتطبيق خطوات فعلية للتوجّه نحو التحرير الكامل لسعر الصرف، دون أن يتم التأكد من صحة هذه الشائعة.
وما خلط الأوراق، وزاد من الشكوك تغيّر سعر الصرف في كلا السوقين الرسمي والخاص، حيث تغيّر سعر الصرف الخاص بالمصرف المركزي ليتوافق مع الوضع الاقتصادي الجديد، وهو أمر مفهوم ومبرّر اقتصادياً في ظل تراجع الناتج والحصار الاقتصادي؛ كما تغيّر سعر الصرف الخاص بشركات الصرافة والمصارف بناء على الطلب الشديد للدولار في ظروف الأزمة، وهو ما استدعى من المصرف المركزي التدخل في السوق الخاصة عبر بيع الدولار لشركات الصرافة لزيادة عرضه وتخفيض سعره، وهي السياسة التي أثبت الوضع الحالي عدم صوابيتها، بسبب صرف جزء كبير من الاحتياطيات، ولم يتحقق استقرار سعر الصرف إلا في أوقات قليلة؟!.
وأخذ معارضون ومتآمرون استبدال بعض فئات الأوراق النقدية على أنه اعتراف “حكومي” بتراجع خطير للعملة السورية -على حدّ زعمهم طبعاً- وأن الليرة لم تعُد رمزاً وطنياً، بقدر ارتباطها بالواقع الاقتصادي الحقيقي الذي تعيشه البلاد منذ بدء الأحداث والاضطرابات بالبلاد عام 2011، رغم أن الحاجات الاقتصادية والمالية تستدعي طباعة أوراق نقدية لتلبية المتطلبات، في أوقات الاستقرار، وأحياناً في زمن الرخاء الاقتصادي، كما فعلت البرازيل والهند وجنوب إفريقيا عندما طبعت أوراقاً نقدية بقيم مرتفعة جداً تماشياً مع النمو الاقتصادي الحاصل لديها.

تحت السيطرة
كما أن السماح بانخفاض قيمة العملة “رسمياً” من 50 ليرة قبل الأزمة إلى 177 ليرة حتى تاريخ أمس، دون النظر إلى تأثيره السلبي في أسعار المواد الغذائية وكذلك السلع والبضائع المستوردة من الخارج، وإلى ما سيؤول إليه الوضع المعيشي للمواطن، قد فُهم على أن سعر الليرة الذي ينبغي له أن يكون محدّداً بناء على مؤشرات اقتصادية ترك ليأخذ قيمه الصحيحة، والتحرّك وفقاً لتقلبات سعر الصرف المعوّم في الأسواق الخاصة، وهو ما عنى لبعضهم أن سياسة “التعويم المدار” فقدت قدرتها على إدارة سعر الصرف وتحوّلت إلى سياسة تعويم كاملة.
وهذا الفهم المغلوط يؤكده سعر الصرف الذي ما زال تحت السيطرة وبقاؤه فترات من الزمن ضمن مستوى محدّد، وهي مؤشرات على توفر الاحتياطيات المطلوبة من القطع الأجنبي، وأن المصارف لديها ما يكفي من النقد الأجنبي، وأن السلطات النقدية تمتلك أدوات متنوعة وقوية لمواجهة الذين يسعون إلى تقويض الثقة في الليرة، وأن سورية لديها الموارد المطلوبة للتعامل مع البيئة الاقتصادية الحالية، علماً أن الكل يعرف باستمرار الأزمة لفترة طويلة، لكن الحكومة ومنذ البداية أكدت استعدادها لمواجهتها، كما نعرف أيضاً أن العقوبات ستكون أليمة، لكنها لن تؤدّي إلى الانهيار لأن لنا معها تجارب سابقة.

وبعد
إن تذبذب سعر الصرف في حدّ ذاته أثار الكثير من اللغط، وكذلك عدم تثبيت سعر صرف تعمل بناء عليه الفعاليات الاقتصادية والتجارية والشعبية، ووجود أكثر من تسعيرة (رسمية، تدخلية، سوداء)، ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه وشكّل بيئة خصبة لمزيد من التكهنات والشائعات التي لا تجد طريقاً لها إلا في صفحات التواصل الاجتماعي الافتراضي، والأحاديث الشفهية بين الناس والتجار على حدّ سواء، وخصوصاً مع عدم المعرفة الكاملة بمعنى وآلية الإدارة النقدية.

دمشق – سامر حلاس