في زمن الفن الهابط..!
لا اعتقد أنني ابتعد عن الحقيقة كثيراً إن قلت بأن الفن كان على الدوام بمثابة الشعلة التي تضيء الطريق إلى حيث يجب أن يسير الذوق العام، وما ليالي السهر والحفلات الرائعة التي كان يقيمها عمالقة الفن أيام الزمن الجميل في تاريخ الفن العربي إلا دليل على صوابية هذا القول. فيما بات يسمى زمن الحداثة وثورة الاتصالات وزمن الانفلات الفضائي وتناثر المحطات والقنوات الإعلامية بشكل مخيف وغياب أي معيار من المعايير الأخلاقية في بعض الحالات أو السياسية في حالات أخرى انتشر نوع مخيف من أنواع الفنون كالنار في الهشيم وبات يهدّد كل ما من شأنه أن يرتقي بالذوق العام والذائقة الفنية لدى جيل بأكمله. وعلى اعتبار أن الفن هو مرآة المجتمع ويعكس أحوالها سلبا وإيجابيا (هكذا قالوا وهذا ما نؤمن به) فهل يمكن أن تشهد المرحلة المقبلة ردّات فعل على هذا النوع من الفنون؟! وهل ستقوم المجتمعات بإسقاط أغنيات “الهشّك بشّك” على اعتبار أن الفن الجيد والأصيل هو الذي يجب أن يبقى ويستمر؟!
لا شك أنها مسؤولية الجميع والمواطن بالدرجة الأولى لأنه هو من يجب أن يقوم بـعملية الفلترة – إن جاز التعبير- من خلال رفض ما تفرضه عليه بعض القنوات التلفزيونية الرخيصة وبعض الإذاعات التجارية والبحث بنفسه عن العمل الجيد لأنه وحده القادر على التمييز بين الفن الراقي والفن الهابط.
المواطن/ المستمع والمشاهد والقارئ/ كان على الدوام يسمع ويرى ويقرأ إلى جانب الأعمال المتميزة أعمالاً هابطة ولولا وجود الشيء ونقيضه في كل مناحي الحياة لكان من المستحيل معرفة الجيد من الرديء ولكي نتمكن من معرفة قيمة الجيد يجب أن يكون الرديء إلى جانبه فالمتابع لعمالقة الفن والطرب الأصيل أيام عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش وفايزة احمد وغيرهم كان يلتمس إلى جانب عظمة هؤلاء من يعتلي المنابر والمسارح وهو لا علاقة له بالفن أو الموسيقا!
أعتقد إن لم أكن جازماً أن عدد وسائل الإعلام قد لعب دوره في تسويق الفن الهابط ففي أيام العمالقة الذين أتيت على ذكرهم قبل قليل كان عدد قنوات الإعلام محدودا جدا ولم يكن هناك مجال لانتشاره على عكس الوضع الذي نحن عليه اليوم حيث الوفرة في عدد الإذاعات ومحطات التلفزة فضلاً عن الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها فمثلاً في مصر في حقبة الستينيات لم يكن يوجد فيها سوى محطة واحدة وكانت هذه المحطة تهتم ببث أعمال فناني الدرجة الأولى وتستبعد كل الفنانين الذين يقدمون فنا هابطا.
في زمن العمالقة لم يقتصر الحضور على عامّة الناس بل كانت الصفوف الأمامية تحجز لمن يشغلون مناصب هامة وحساسة في الدولة وفي مقدمتهم زعماء الأحزاب والرؤساء فالفنان محمد عبد الوهاب مثلا كان لقبه (مطرب الملوك) أما الفنانة أم كلثوم فكانت تحظى باهتمام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يصر دائماً على حضور حفلاتها ويحرص على الجلوس في الصفوف الأولى هذا عدا عن أنه أمر بتخصيص وقت خاص لبث أغنياتها في الإذاعة وحتى لا نقول بأن تلك الحقبة انتهت ولم يعد لها أي اثر في عالم الفن والغناء فالأمر نفسه ينطبق على الفنانة فيروز والأخوين رحباني الذين كانوا يحيون المهرجانات في بعلبك بحضور رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء.
ما نشاهده اليوم على أكثر من فضائية لا يدعو إلى التفاؤل بعودة الفن الأصيل والطرب الراقي فمع انتشار المسابقات والبرامج الفنية ولجان التحكيم وعمليات التصويت من المشاهدين الذين في اغلب الأحيان لا ينتصرون للصوت بل يكون التصويت لاعتبارات أخرى لا مجال لحصرها الآن وقعنا أسرى لمزاج هذه اللجان ولمن يملكون ميزة التصويت وكلنا نعلم أنهم من جيل “الهشك بشك” الذي فتحوا أعينهم عليه.
ما لفت نظري ودعاني لكتابة هذا المقال ما رأيته وسمعته منذ أيام قليلة في كافيتيريا إذ كنا نستمع إلى وصلة غنائية رائعة لأحد عمالقة الطرب وفجأة سمعنا صوتاً يطلب من صاحب المحل تغيير هذه المسخرة (كما وصفها) وإبدالها بشيء من أغاني مطربي هذه الأيام.
طبعاً الحادثة طويلة لا داعي لسردها سيما وانه داخلها هرج ومرج ولكن في النهاية تمكّن صاحب المحل من إخراج هذا الشخص ليدعنا نستمتع ببقية الجلسة لمن لن يتكرروا في عالم الفن والطرب الأصيل!
رمضان إبراهيم