ثقافة

1 من 2 بخصوص الأفعى والشّيطان والألوهة المؤنّثة

“قال لي: بل أنتِ الأفعى، وأنتِ الشّيطان،سُعِدتُ بالوصف الأول وتعجّبتُ من الوصف الثّاني” ثمّة مسافة نكرانٍ قاسٍ وجحودٍ طويل،قاهر، له صفة الدّيمومة، لكثرة ما استطال وتورّم في ذاكرتنا المستقيلة.مسافة يفرضها الوحشيّ من الثّقافة على الآخر المدنيّ منها،سُحِبَ البساط خلالها من تحت أرجلِ المؤنّث، ليعلنَ مجد البطريرك الذّكر/ السيّد بحكم التّطوّر الموضوعي للمجتمع ولكن مهلاً، من قال إنّ التّطور ذاته،لا يطاله التّشوّه “الخُلقي” تشوّه البدايات المجهضة، والانعطافات القسريّة/ لمجرى الأحداث الإنسانيّة؟! .
لقد توّجتْ النّساء في فجر الحضارة البشريّة، حاكمات،قاضيات، ربّات،وهذا ما أكّدته الحفريّات الآثاريّة لـ /سومر، بابل، آشور/ ولكن الذّكورة أطلّتْ كحالةٍ عنفيّةٍ لتلوي عنق البكورة واللّين،انتصاراً للصّخب والحرب.حيث ابتدأ المجد الذّكوري بالعلوّ من خلال أساطير التّوراة المجمّعة للثقافات المندثرة في المنطقة،بعد أن مهّدتْ له انزياحات ثقافيّة أخرى،تجلّتْ بإعادة كتابة الملاحم السّابقة بمراحل لاحقة “كما يقول بعض الباحثين” لتعطي مشروعيّة تاريخيّة قديمة لمفردات التّعالي التوراتي الذكوري الوليد،وبدأت رحلة التفريغ والإلغاء لكلِّ رموز الأنوثة الكونيّة ومنها “الأفعى” التي كانت تتخذ كشعار للملكات والرّبات القديمات/ إيزيس، إنانا، أرتميس، كليوبترا، حتشبسوت، نفرتيتي، سميراميس..إلخ/ ومع الثقافة الذكورية،ابتدأت عمليّة التّذويب، والمحو الممنهج، واستبدال الرموز الكونية، الكبرى. لتناسب الوافد المهيمن الجديد، فغدا شعار “الأفعى” رمزاً لإله الحكمة “هرمس” وإله الطّب اليوناني “اسكليبوس” وتوطّدَ الهجوم التّوراتي على المرأة باتهامات كثيرة لها، كـ “الخبث، والخطيئة الكبرى” ومن ثمّ أبلستها،لتغدو رديفة للشّيطان أيضاً ،ومن بعدها لتطرَد من “الجنّة” الذّكوريّة، وأن تكون بلا أطراف تسعى إلى رزقها زاحفةً،عدوّةً للإنسان،تلدغه أينما وجدته “عقب أخيل الملدوغ” ويقتلها أينما وجدها ،مع أنّه كما هو معروف بأن / 90/ بالمائة من الأفاعي ليست سامّة ولا تهاجم إلا من يعتدي عليها أو يهدّد ذرّيتها،ويخرّب جحرها.
وقبل التوراة،سعتْ ملحمة جلجامش “المعدّلة” لتفريغ المفردة المؤنّثة من حضورها “النّدّيّ” للذكر لتهيم “ليليت” الأم الكونيّة الأولى،على وجهها،مطرودة من الجنة الذكوريّة بعد رفضها التبّعيّة للذّكر،ولتستبدَل بـ “حوّاء” المسالمة، التابعة،المهجّنة،التي بقيت كظلّ، للذكر حتى الآن. ظلّ صاغته الثقافة الذكورية بما يبرّر انتهاكاتها بحقّ المؤنّث، تقول الشاعرة اللبنانيّة “جمانة حداد” بهذا الخصوص بمقطع شعري،مضيء: (أنا “ليليت” (…) ماينقصُ الرجل كيلا يندم وماينقصُ المرأة كي تكون).والسؤال الآن هو كيف تقبل أخلاقيّة الثقافة البشرية مثل هذا الانتهاك والتحريف لحقائق التاريخ، وتتنكّر لقديمها الجميل ،بل وتمعن به تزويراً ونسفاً؟!.ثمّة قلّة تعرف أنّ /الكفّ الزرقاء والعين المكحّلة بالرموش الطويلة هي ربّة المهد “ليليت” التي كانت الأمّهات تستنجد بها لتحمي أرواح الأطفال،فاليد هي رمز العناية،التي كانت تقوم بها “ليليت” و”العين” تعني السّهر والرعاية وهي عين “ليليت” التي لا تنام وهي تهدهد مهد الأطفال ليناموا ويحلموا،”ليليت” بأسمائها المختلفة،لميا، ليل، ليال، ليلى، لولا، لوليتا، لوليت..إلخ/.وما ترنيمة “ياليل ياعين” التي تردّدها الأمّهات منذ آلاف السنين سوى استدعاء للذاكرة الجمعيّة اللّاواعية لهذا الإرث “اللّيليتي” حامي الطفولة والسّاهر على أحلامها .أنشودة الأنوثة المغيّبة هذه اندثَرت من حيث المصدر مع انحلال المجتمع الأمومي لأسباب موضوعية وطغيان مفردات الذكورة تبعه ما يشبه المسح الثقافي والاستبدال للحقائق ولكلّ ما يتعارض مع مجدها الوافد/ لذلك كان لابدّ من تهجين وترويض تدريجي وعنفي للمؤنّث، بغية خلق الحاضنة الثقافية الاجتماعية للمفردات الجديدة، فكان لها ذلك عبر تبنّي الكتب “المقدّسة” لها ومنها “التوراة” كأول كتاب تجميعي لأساطير المنطقة، وقبل “التوراة” تولّتْ ملحمة “جلجامش المعدّلة ذلك/ حيث “إنانا” ملكة السماء والأرض ،وهي النسخة المعدّلة عن أمّنا “حواء” تتعاون مع الذكر “جلجامش” / جلجامش الذي يشبه “أبانا “آدم” على محاربة “ليليتْ” الرّبة المؤنّثة،الرّافضة للانصياع للرّب الذكر،ولم تكتفِ الأنثى المهجّنة، بالتعاون بل والرضوخ أيضاً.وابتدأت المدنيّة بالانحطاط والتّراجع لصالح الحروب والدمار،لكن “ليليت” لم تساوم وأصرّت على أن تبقى الحارسة لمهد الأطفال رغم طردها من الفردوس الذكوري،جنة “جلجامش” السّاعي ،لتوطيد سلطته الذّكوريّة وبناء ثقافة جديدة .يربَّى خلالها الأطفال على مفردات الحرب،بدل مفردات اللّين والأمان والسلم،التي كانت “ليليت” تدعو إليها وجرى التّصادم وطُردتْ “ليليت” وشوّهت صورة المرأة بإضفاء الصّفات التحقيريّة عليها محوّلة إيّاها من ربّة للسّلام إلى ربّة للشّرور،تقود الحروب،وتسبّبْ الويلاتْ ،ومن العين الساهرة على أحلام الأطفال إلى شيطان يقتل الأطفال ويسكن الخرائب.لتتحوّلْ بدورها “الأفعى” رمز الربّة الخالقة المبجّلة،إلى طريدة للإنسان تسعى للدغه بعقبه ويسعى لقتلها وهاهي “إيزيس” الرّبة المصرية القديمة تترنّم بإرث الأفعى المؤّلهة المفقود ،قائلةً:(يومَ أُفنِي كلّ ما خلقتُ، ستعود الأرضُ محيطاً بلا نهاية،مثلما كانت في البدء،وحدي،أنا سأبقى وأصير كما كنتُ قبلاً أفعى،خفيّة،عصيّة على الأفهام).وقد كان المصريّون القدماء يؤمنون بأنّ الإله/ آتوم/ يتّخذ في الأرض صورة “الأفعى” وقد بنيتْ للأفعى معابد وأماكن عبادة كثيرة والغريب أنّ أكثر هذه الأماكن موجودة في “فلسطين” مكان كتابة أشعار التوراة التي كانت العدو الأكبر للحضور المؤنّث،حيث اكتُشف في / 1903/م أكبر هيكل مخصّص لتقديس الأفعى، وجدَ الآثاريّون فيه، آلاف الأفاعي المحنّطة وتمثالاً ضخماً لأفعى الكوبرا.
ولمسك الختام عطره، ولكن هنا له مفارقته،المرّة على صعيد تحقيرالمذكّر للمؤنّث وتصغيره،فعلى المستوى “اللغوي” رغم اعتراف اللغة العربية بالمكانة الرّمزيّة العالية لمفردة “الحيّة” لكنّها تصبح بشرح فقهاء اللغة،ذات معنى إذلالي،حيث تذهب إلى نقيضها /الدّونيّ،فمن معنى الحياة الذي اشتقّ منه، اسم “حواء” إلى قول “ابن منظور” بتوضيح لفظ “إله” بأنّ الإلهة،الحية العظيمة” ثمّ يتابع القول /الالهة هي الحيّة واللّات /الصّنم المشهور /أصله /اللّاه/ وأصله/لاهة وهي”الحيّة” إلى لسان العرب الذي ينبؤنا عن مفردة “أنثى” “أُنثْ” بأنّ الأنثى على خلاف الذكر في كلّ شيء،والجمع “إناث” و”أُنث” كـ “حمار” و”حُمُرْ” ثمّة مسافة،وحشيّة،لا تكتفي فقط بتحقيرالمؤنّث،بل وتصدربحقّه حكم الإعدام أيضاً.
أوس أحمد أسعد