مجد الأنوثة المطمور.. أم مجد الذكورة الآفل
تقول الملحمة…[فتشمّمتْ الحيّة رائحة النّبتة “نبتة الخلود” وتسلّلتْ صاعدةً من الماء، وخطفتها، وفيما هي عائدة، تجدّد جلدهَا وهنا، جلسَ “جلجامش” وبكى].لماذا تبكي يا “جلجامش”؟! وأنت الذي أوغرتَ صدر”إنانا” إلهة السماء والأرض لتطردَ غريمتك “النّدّ” “ليليت” الإلهة المؤنثة المتمرّدة على قيمكَ الذّكوريّة، ثمّ لتطردها من جنّتك فيما بعد، ولكن..أذكرٌ ويبكي؟! تلك كبيرة لا تغتفر بعرف الذّكورة..فـ “الأفعى” لم تسرق نبتة الخلود، بل استعادت حقّها المستولى عليه..فالكون مؤنّث، والطبيعة مؤنّثة، والمرحلة التي عاشتها البشرية من السّلم والأمان واللّاحرب، كلّها مؤنثة بامتياز، وهاهي رموز ذكورية تاريخيّة مهمّة تعترف بذلك، كـ “سيف بن ذي يزن” الذي يضع شارة الأفعى المؤنثة على سيفه المشهور، كما قيلْ، وكذلك المتصوّف الشهير/ بن عربي يطلق عبارته الشّهيرة، (كل مكان لا يؤنّث، لا يعوّل عليه) ولكنّنا نقدّرُ بكاءَك يا جلجامش، بكاءَ الخاسر المتعدّي، بكاءَ الثقافة الذّكورية على مجدٍ ليس لها، لكنها تدّعيه. وهاهي صفات الأفعى /الرمز الأنثوي المؤلّه، تُرخي ظلالها على الأشياء وتدمغها بخاتمها، هي تعرف طريقها، تنسربُ برشاقةٍ، وتدلفُ إلى حيث تريد، تعرف أين يتجه زحفها، لا تصطدم بشيء، الزحف مشيتها، إبحارها فوق الأسطح، فوق الرمال الناعمة، على أقسى الصخور صلابة، بين الأدغال وأغصان الشجرة، ألا ترى كيف استلهمت الجيوش الذكورية طريقها فيما بعد إذ يقال “زحف الجيش، وإذا تقهقر الجيش قيلَ انسحبَ، وهما شكلا حركة الأفعى الخالدة” و(للحيَا، والحيّة) في الذّاكرة اللغوية العربية معانٍ خطيرة ودالّة، حيث المعنى الأوّل لصيق بالمرأة وهو/ العضو الأنثوي/ وبلسان العرب: الحَيَا يعني “فرج النّاقة” والحيُّ: “عضو المرأة” و(حيّة وحوّاء، وحَيَا) كلّها ألفاظ عربيةّ قديمة و”الحَيَا” يعني المطر والخصب، وما أدراك ما المطر والخصب..!! أليسَا نتاج الأرض المشبعة بالحبّ والبذار و/ حيا، حياة، حوّاء/ من مشتقّات اسم” الحيّة”.والحيّ أيضاً عكس الميّت، فهو خالد ومتجدّد وذو ديمومة. هذا وقد عبد العرب “المؤنّث” قبل الإسلام، عبدوا اللّاتْ، ومناة، والعزّى، وأسماء قبائلهم/ كندة، ثعلبة، أميّة، ساعدة/ تدلّ على بقايا هذا الإرث الثّقافي. وفي المسيحيّة أبقيَ رمز السيّدة العذراء من بقايا الألوهة المؤنّثة، ولكن المجد أُعطيَ للذكر”السيد المسيح”، ثمّ جاء الإسلام ليهيل الرّكام على مجد الأنثى، وليحيي مجد الذكر، إلا من بعض الشّذرات المتناثرة في حديقة تاريخه الرسمي، الخلفيّة، والتي يُستدلّ من خلالها، على المجد الآفل، أقصد دور بعض النساء العربيّات في صنع التّاريخ الذكوري كـ “خديجة ” زوج الرسول، و”هند” و”سجاح” مدّعية النبوّة…الخ.والكثير من الأسماء المهمّشة والمطمورة، وما لم تعترف به الثقافة الإسلامية، ومن ضمنها العربية، تفضحه اللغةُ، ذاتها كاشفةً عن وجه الأنوثة اللغوي ذي الفرادة، التي لا يمكن طمسها حيث يوجد في العربية (اسم جمع لا يمكن إفراده، واسم مفرد، لا يمكن جمعه).المفرد/ امرأة/ لا يجمع، والجمع “نساء” لا يفرد.وكلاهما من سمات الأصالة والفرادة والألوهية المؤنّثة. فكيف غدا المقدّسُ مدنّساً وارتبطت به الشرور، فهناك “بعل” وهناك “حرمة” ملحقة به، ذاك البعل/ الذكر، الذي أزاح الإلهة “عشتار” عن العرش، ذاك “الآدم” الذي خلقه الإله على صورته.ونسي خلق “حواء” إلا بعد أن أحس بضجر الذكر وعزلته، فاكتفى حينها بنزع ضلعٍ من أضلاعه ليشكّل به الأنثى ، لتبقى أسطورة “الضّلع القاصر” أشهر من نار على علم، والذكر قوّام على الأنثى، بقوّة النصّ، وله حظّ أنثيين، وشهادته مقابل شهادتين منهما، وله الحور العين، ولها أن نرفق بها ونعاملها بالحسنى.وكذلك المصادر الصناعية في العربية كلّها مؤنّثة: ربوبية، ألوهيّة، إنسانية، علمانية، عالمية، وطنية..الخ..كما يقول الكاتب والباحث “يوسف زيدان” ومن المفارقات الجميلة أنّنا لو حاولنا استقدام الوصف الأعلى لمكانة أحد الذكور معرفيّاً، فسنقول: “نابغة” ولوسيع المعرفة “علّامة” ولعميق التفكير”فهّامة” وإذا فخمنا الجمع المذكّر فسنقول: “رجالات” الأدب، فجمع الذّكور، رغم كل صولته وجولته، لا يُعلي مكانة الذّكر، لذلك نستعين بجمع المؤنّث، وهاهو “المتنبّي” الرّمز الذكوريّ، الأدبي الكبير، يعترف بمكانة المؤنّث العالية، فيقول في حبيبته “خولة” أخت “سيف الدولة الحمداني” وما التأنيثُ لاسم الشّمسِ عيبٌ، ولا التّذكيرُ فخرٌ للهلالِ” وحتّى فعل الإنجاب الطّبيعي، لم ينجُ من محاولة الاستيلاء عليه، عبر تذكير اللغة، كأن يقال “الوالد” أسوةً بـ “الوالدة” حيث لم تعد تكفيه كلمة “الأب” ولكن كيف يلد الأب..؟! لقد حلّت الثقافة القديمة المشكلة، حيث “زيوس” يلد مرّتين، الأولى بأخذه جنين ابنه “بروميثيوس” من بطن أمه الذي تفتّتَ إلى ذرّات، حين ظهر لها “زيوس” نفسه كمرسلٍ للصواعق، فما كان منه إلا أن التقطَ الجنين وزرعه في فخذه/ حتى اكتماله وهكذا ولد “بروميثيوس” من فخذ أبيه، والمرة الثانية حين ابتلع “زيوس” زوجته أم “أثينا” وهي حامل بها، وقد نمَتْ في جسم أبيها وحين الولادة سببت له صداعاً هائلاً في الرأس، فطلب مساعدة ابنه الحدّاد “هيفاستوس” لنزعها من رأسه، هكذا ضُربَ رأسه بآلةٍ حادّةٍ ليتخلّص من الألم الحاد فولدتْ “أثينا” إلهة الحكمة والحرب، مخلوقة أنثويّة جاهزة بدرعها للحرب، لا للسّلام، وبمشيئة ذكوريّة كاملة.ثمّ أُعطيت للمرأة صفات جائرة كـ “لعوبة” مثل “إنانا” لكثرة مغامراتها العاطفية، وهاهو “جلجامش” كرمز ذكوري عتيق، يحاول إلحاق الإهانة بـ “عشتار” وهي تترجّاه ليعشقها: / تعال ياجلجامش، وكنْ حبيبي/ فيجيبها فاضحاً / تعالي أُفصح لكِ حكايا عشّاقك، تمّوز زوجُكِ الشّاب ، ضحّيتِ به، ثم بكيتِه، وطائر الشّقراق، أحببتهِ، ثم ضربتِه، فكسرتِ له الجناح، وأحببتِ الأسدَ الكاملَ القوّة ونصبتِ له مصائد سبعاً..الخ/ “هيلين” مسبّبة الفتن والقتل للآلاف بحرب طروادة، كما وصفتها “الإلياذة” ثمّ لتكتملْ الصّفات السّلبية..بالتّهمة الكبرى، بأن الأنثى، هي سبب “الخطيئة” الكبرى التي أدّت للخروج من الجنّة بـ “خبثها” وتواطئِها مع الشيطان، الذي تجلى لها على هيئة “أفعى” وأدخلها المناطق المحرمة ، ثمّ حُكم عليها بالتبعيّة، لتمنح اسم “حوّاء” المخلوقة من ضلع الذكر. ولم تنفع حتى الآن كلّ نظريات التّحرر الدّاعية إلى إعلاء شأن المرأة، بجعلها الكائن النّدّيّ، المتكامل مع الذّكر، والمستقلّ عنه بنفس الوقت، رغم تراكم كل هذه السنين إلّا بشكل جزئي، ورغم كل النّظريّات التي طوّبتها، سيدة للعالم وبأنّها هي الأصل، وبأنّ الكون أصله مؤنّث، بدليل ولادته للفصول الأربعة، وهاهي أنشودة أنثويّة تترنّم بهذه المفارقة، قائلةً: الحبّ هو الأصل في إيجاد الأشياء، بالحبّ أنجبتك، وبالحبّ أنجبت الأنثى العالم.
أوس أحمد أسعد