البيت في الشعر والغناء
البيت أو المنزل هذا الجزء من العالم، من الوطن الذي يبنيه الإنسان كمملكة خاصة به يجد فيه راحته وسعادته، يبنيه كما يشاء، ويضع فيه ما يشاء ليجعله مكاناً أثيراً لديه ومحبباً لقلبه، يجد فيه ما يعجز عن إيجاده في الخارج، يُمضي فيه أوقات الراحة والهناء، بعد أن يكون قد أمضى نهاره في العمل والتعب والشقاء. البيت هذا المكان المميز خصص له الفيلسوف والناقد الفرنسي (غاستون باشلار) فصلين من كتابه (جماليات المكان) الأول بعنوان: (البيت:من القبو إلى العلية) والثاني بعنوان: (البيت والكون ) يقول عن البيت وأهميته للإنسان: (البيت هو ركننا من العالم، إنه كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى). يرى هذا الفيلسوف والناقد أن البيت –هذا المكان ذو الجماليات الخاصة به والتي تميزه عن بقية الأمكنة التي يصادفها الإنسان– يشبه الكتاب، يقول: (من المنطقي أن نقول إننا نقرأ بيتاً أو نقرأ حجرةً).
لقد كتب الأدباء والشعراء كثيراًعن بيت الطفولة والأحلام والذكريات التي عاشوها فيه، وكلنا نذكر قول الشاعر أبي تمام:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنــــينه أبداً لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
البيت الأول بيت الطفولة والأحلام الكبيرة والحياة الهنية، خاصة إذا كان في الريف حيث الأمداء فسيحة، والآفاق رحبة لا حدود لها، نكبُر فيه، ومنه ننطلق إلى العالم الأوسع، عالم القرية، ثم المدينة، ثم الوطن، ثم العالم الأبعد والأرحب، لكن البيت الأول الذي فتحنا فيه عيوننا على العالم تبقى له المكانة الأغلى والأعز في قلبنا وفكرنا وعواطفنا، يقول الشاعر اللبناني جوزيف حرب في قصيدة له بعنوان (بيتنا) في الجزء الأول من ديوانه ذي الجزأين ( شيخ الغيم وعكازه الريح):
“ذات يوم سألتني الراهبة في الدير: أين بيتُكم؟ قلت لها: زوري برفقتي البيوتَ كلَّها فأيُّ بيتٍ، عندما نخرج منه، تسقط الدمعةُ من جفني على طريقه يكون بيتَنا”.
ويقول في قصيدة أخرى:
“سِرْ أيها الآتي إلينا/لن ندلَّكَ أين قريتُنا/فَسِرْ، واتبع إذا ما سرتَ رائحة الطحين/وزعتر الوديان/والعَرَقِ المفوَّحِ في التراب/وإن لمحت وأنت تمشي في البعيد/ضبابة غطت على الزيتون/أو صفصافة تأتيك منها بُحةٌ للناي/رافَقَها حفيفُ الغصن ممزوجاً برقرقةِ المياه
وإنْ– وأنتَ تسيرُ – أدركك الغروبُ مبللاً بغناءِ أمٍّ فوقَه/رفَّت قبيلَ الليل أجنحة الملاك
تابعْ خطاك/ستكون قريتنا هناك”.
الحديث عن البيت يستوجب الحديث عن الباب، والباب له وظيفة هامة جداً في إنشاء البيت، إنه الحد الذي يفصل الداخل (داخل البيت) عن الخارج (العالم المحيط) إنه نقطة الالتقاء والافتراق معاً، ما بين البيت كمملكة خاصة بالإنسان وحياته وخصوصياته وأحلامه، والخارج كمكان مفتوح للجميع، إنه أيضاً الحد بين الداخل كمكان مريح وآمن وهادئ ودافئ، والخارج كمكان مفتوح على المجهول والخوف والبرد والصخب والأعاصير، الباب هو أول ما يواجه الداخل إلى البيت، لذلك يتحمل هذا الباب صفات وخصائص قاطني البيت، فإذا كانوا كرماء قيل: باب الكرم والجود، وإن كانوا بخلاء يقال: هذا الباب لا يطرقه ضيف، وهذا الباب يضحك للضيف وذاك عابس مقطب متجهم، كل ذلك مجازاً والمقصود أصحاب البيت.
البيوت متعددة ومتنوعة ومختلفة، هناك البيوت التي تدل على ثراء سكانها وغناهم بما تحتويه من أثاث فاخر وطريقة بناء عصرية مترفة، وهناك بيوت بسيطة تدل على فقر قاطنيها، هناك بيوت مشيدة بالرخام والقرميد والحجارة، وهناك بيوت مبنية من الطين والخشب أو من الخيام التي تسمى بيوت الشعر يقطنها البدو، مهما كان البيت مترفاً وثرياً ومريحاً وآمناً فهو بحاجة إلى صفة أساسية لا قيمة له دونها، وهي قدرته على إضفاء السعادة والبهجة على ساكنيه، فإذا لم يكن كذلك فلا أهمية لكل المزايا والصفات المادية الجيدة التي يمتلكها، السعادة لها أسباب كثيرة ومتنوعة ومختلفة منها مادي، ومنها معنوي اجتماعي نفسي، ولا تغني الأولى عن الثانية، لكن الثانية ربما تغني عن الأولى، وكثيراً ما نجد أناساً فقراء يقطنون بيوتاً بسيطة، ولكنهم سعداء مبتهجون، وبالعكس هناك أناس يقطنون بيوتاً غنية ثرية ولكنهم تعساء، قالت ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية بن أبي سفيان:
لبيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ أحب إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
ولِبسُ عباءةٍ وتَقَرُّ عيني أحبُّ إليَّ من لِبسِ الشُّفوفِ
البيت جزء من ذاكرة الإنسان وهو يبقى محفوظاً وعصياً على النسيان بأحلامه وتفاصيل الحياة فيه، وبالمقابل هناك بيوت عصية على التحديات تحديات الطبيعة من أمطار وعواصف وأعاصير، أو التحديات الأخرى البشرية تحديات العدوان الهمجي المدمر، وهذه البيوت تعكس بصمودها ومقاومتها وصلابتها خصائص ساكنيها ومشيديها فقد اقتلعوا حجارتها من مقالع جبالهم الشامخة، وشيدوها بعرق جباههم، وأثثوها بكدِّ يمينهم، وهم متمسكون بها وحريصون عليها وعلى الدفاع عنها مهما كان الثمن غالياً، لا بل مستعدون للتضحية بأرواحهم دفاعاً عنها. إنها جزء من كرامتهم وشرفهم وعزتهم، إنها بيوت العز والإباء والمقاومة، بنوها على بوابة الشمس لتبقى منارة للأجيال القادمة، يضيئونها بقناديل أرواحهم، يقول الشاعر اللبناني الجنوبي باسم عباس في قصيدة بعنوان: (مملكة الدم) من مجموعته (تجاعيد المسافة):
على بوابة الشمس أفلتُّ فرساني/على أكتافهم شيدت ساحاتي و أبراجي/على بوابة في الشرق كم أشعلت من روحي قناديلي/على بوابة الصفصاف كم شَمْشَمْتُ لونَ الدم/كم طابت مواعيدي.
عماد الدين إبراهيم