من الإسكندرونة إلى الإسكندرية “الســــيرة الأولـــى لمبـــدع ســـوري كبيـــر”
< على الحكومات العربية التنقيب عن المبدعين في بلدانها
كما يتم التنقيب عن النفط.
وليد إخلاصي
يقول أرسطو في كتابه “فن الشعر”، وهو معلم الإسكندر المقدوني، الفاتح الأكبر الذي سميت باسمه مدينتا الإسكندرية وإسكندرونة: “يعبر الأدب عن العام بينما السيرة الذاتية عن الخاص”. مع ذلك فعندما يعرضها صاحبها بشفافية تعرِّي الذات- في مكاشفة صادقة مع النفس والآخرين- تغوي بالمطالعة، ما يحفِّز القارئ على إعادة النظر في سيرته الوجودية، والتفكير بالمضيِّ نحو الأفضل على هدي ما يقرؤه من تجربة إنسانية غنية، وصور مفعمة بالحياة.
الكتاب صديقي
“مكتبة والدي الصغيرة حفَّزتني على المطالعة، لإعجابي به، وبتاريخه الذي كشفت عنه أعداد من مجلة الاعتصام التي ترأس تحريرها قبل أن أولد، وقد توقفت بأمر من الحاكم العسكري الفرنسي أوائلَ الثلاثينيات: أمضينا زمناً دون توفُّر مدفأة في البيت. فكان المنقل وسيلتنا لإرسال الدفء حتى فترة من الليل، وصار الفحم كالخبز واجب التوفر دائماً. ثم كان لدخول المدفأة إلى بيتنا فعل السحر، إذ تجمعُنا حولها: الصبيان الثلاثة ينجزون واجباتهم المدرسيَّة، أختي الصغيرة تمسك بالصوف حول يديها، تساعد الوالدة في تحويله إلى كرة، بينما الوالد يقرأ في كتاب” ص34
أزهري وملحد
وعلى أرض الواقع تصبح السيرة الشخصية مجرد تأريخ لشخص صار أديباً كبيراً إذا لم تحمل عبراً ودلالاتٍ عميقة موحية، فتصوروا علاقة صداقة متينة بين رجلين أحدهما متدين أزهري ومدير أوقاف: “لوالدي صديق قريب إلى نفسه لم نعرف عنه سوى أنه غير متزوج بالرغم من تجاوزه الخمسين: السيد صقال مسيحي من عائلة قديمة في حلب، إلى أن رأيت والدي يبكي بحرقة- وكنت لا أتخيل أن رجلاً مثله يبكي- وهو يذكر مصابه بفقد صديقه. وجاءت أيام العزاء بالكنيسة، فوقف مع أهله وذويه مستقبلاً وفود المعزين على أنه أقرب الناس إلى الفقيد”. بعد فترة، وباستجماع شجاعتي، قلت:
يقولون إن السيد صقال لا يؤمن بالله. وهذا ما يحيرني في لقاء مؤمن بملحد على الصداقة. فوجدت والدي يجلسني بقربه، وجعل يتحدث بحنان عن صديقه: “كان واحداً من أشرف الرجال الذين عرفتهم: أمين على حقوق الناس، صادق في علاقاته ووعوده، يحمل الاحترام للجميع، ولا يفعل شيئاً يضر بأحد، بل يسعى إلى منفعة غيره”.
ثم أردف:
ـ اسمع بني: “الإيمان أمر يخصُّ علاقة الإنسان بخالقه، ولسنا نحن الذين نملك الحق لنحكم على أحد” ص94-95
للتذكير: أنا أتحدث عن مواطنَين سوريَين من مدينة حلب، وعائلتين مرموقتين عريقتين إخلاصي والصقال، وعن حلب التاريخ والحضارة، المكان والإنسان، مدينة الجمال والحبِّ والإبداع، كما يراها مبدعنا الكبير مشبهاً نفسه بالسمكة التي بحرها حلب.
التربية بذكاء
“لم يُعرَف عن والدي أنه يصدر الأوامر، بل يشير إلى اتباعها بذكاء الرجل الديمقراطي. كان حبنا له مع إيمان بأنه يفعل الصواب يدفع جميع أفراد الأسرة إلى التسليم بتوجيهاته على أنها أوامر. صحيح أنَّه لم يلجأ مرة إلى استخدام مصطلح الديمقراطية إلا أنه كان يمارسها فعلاً. فهل من الضروري أن يتحدث أحد عن العدل، أو الاستقامة والنزاهة، ليؤكد تلك القيم، أم أن ممارستها هي الضرورة التي تثبت وجودها ص93
المعلم القدوة
“وكان الأستاذ إذا يحدثنا عن امرئ القيس مثلاً نحسب أننا في حضرة الشاعر الجاهلي، وهو يترك مضرب قبيلته كي يعيش بيننا، لقد تحولت حصته إلى أجنحة تحلق في فضاء الشعر، وتجوب بنا أرجاء الأدب قديمه وحديثه. ها هو يبني داخلنا رؤية جديدة لإبداع العرب في تاريخهم وحاضرهم، وأظنني بدأت خلال العلاقة مع سليمان العيسى أفكر في أن أصبح أديباً ذات يوم” ص100
ستقولون: مَن أساتذته سليمان العيسى، خليل الهنداوي، خير الدين الأسدي، وزكي الأرسوزي… سيكون مبدعاً بالتأكيد. وعليه ماذا أقول عن كتّابنا الشبان، يبزغون براعم عطاء نضر، عاينتها من خلال تحكيم مسابقات اتحاد الشبيبة، ومهرجانات شعرية قصصية، كان آخرها مهرجان الأدباء الشبان في دار الأوبرا، ألم يتعلم هؤلاء على أيدي أساتذة قديرين، يتعرضون هذه الأيامَ لتهديدات بالقتل، إن هم داوموا في مدارسهم، مع ذلك لم يتنازلوا عن تأدية واجبهم التعليمي المقدس، وتقديم المعرفة – أدبيَّةً أو علميَّةً – لطلابهم الذين يرفضون بدورهم البقاء في البيوت على الرغم من الأخطار الجسيمة المحدقة بهم في المدارس. إذن: لماذا لا يكون لدينا أمثالهم وأمثاله أيضاً؟
وأستطرد فأورد مثالاً على الصمود، إذ بعد خمسين عاماً من الحصار الكامل – العدوان السافر – ضدَّ الجزيرة البطلة كوبا لم تتراجع عن اشتراكيتها العظيمة. بل تراجعت أمريكا وأسقطت العقوبات عنها. وهنا أسأل:
ـ هل نحن شعوب في عمر الحضانة، أو مازلنا على مقاعد الدرس حتى يفرضوا علينا هذه العقوبات الظالمة، التي هي عدوان اقتصادي متوحش بكل ما تعني الكلمة من معنى.
حادث وعبرة
أمسكَ بيدي، بدونا صديقين في نزهة على كورنيش البحر في بيروت. فإذا بسيارة سوداء يخرج سائقها، ويهتف مرحباً بوالدي، وهو ينحني باحترام.
ثم تصدرنا المقعد الخلفيَّ، والحديث دائر، كأنهما على معرفة سابقة. وأتفحص الرجل الذي تذكرني أناقته بالأمراء الذين نشاهدهم في الأفلام التاريخية، إلى أن توقفت السيارة، ووضع والدي أجراً في يد السائق الذي نزل بنفسه يفتح لنا باب السيارة، ويودعنا باحترام لائق.
في طريق العودة استوقفني والدي وجعل يتحدث بلغة المعلم الصارم: “ذلك السائق من أبناء السلطان العثماني، وهاهو يصبح سائقاً بعد زوال العز والجاه، فلو كان حاصلاً على شهادة جامعية، يكسب بها رزقه، ما اضطر أن يعمل سائقاً لسيارة، لا يملكها أصلاً.
وتابع قائلاً: صحيح أن العمل شرف لكن العلم تاج يزين الرؤوس عبر العصور. ص65
كاتب تجريبي بامتياز
ولد وليد إخلاصي في مدينة إسكندرونة 1935، درس في حلب، ثم التحق بكلية الزارعة، جامعة الإسكندرية متابعاً دراساته العليا هناك، عاد بعدها ليعمل في مديرية الاقتصاد، ثم محاضراً في كلية الزراعة بجامعة حلب.
ومع أنه صاحب اسم لامع في المشهد الأدبي المعاصر كتب خلال نصف قرن حوالي خمسين كتاباً في مختلف الأجناس والفنون الإبداعية فنال وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وحاز جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية عام 1990 + جائزة سلطان العويس 1996 على الرغم من ذلك كله مازال يؤكِّد رداً على تقييمه لمجمل كتاباته من مسرحيات، وروايات وقصص، ومقالات… ترجم الكثير منها إلى لغات عدة بالقول:
ـ إن ما كتبته حتى اليوم ما هو إلا تمارين أو “بروفات” لعمل مستقبلي آمل أن أكتبه غداً.
الكتاب حجمه صغير، غلافه عادي، لكنه غني بمعلوماته القيِّمة، وقد قسمه الكاتب إلى فقرات تحت عناوين فرعية ما يسهل قراءته بسلاسة… وقد صدر بالتعاون بين الهيئة العامة السورية للكتاب وصحيفة البعث قدم له أ. د. عبد النبي اصطيف.
أيمن الحسن