الموشحات اشتُهرت في سورية وتطورت في الأندلس
لم تستطع الساعات التي سبقت هبوب العاصفة الثلجية، وحملت أمواج الرياح الباردة أن تبعد محبي موسيقا الزمن الجميل عن متابعة المحاضرة الشهرية للباحث الموسيقي وضاح رجب باشا في المركز الثقافي في (أبو رمانة)، ليصغوا إلى أجمل الموشحات التي شُغفت بالمحبوب ونهلت من مفردات محي الدين بن عربي وابن زهر ولسان الدين الخطيب وألحان الأوائل مثل عمر البطش، وصدحت بصوت المبدع صباح فخري وغفت بحلم فيروز. ورغم ضياع كثير من ألحان الموشحات التي لم تدوّن ووردت كلماتها فقط، حفل تراثنا العربي والأندلسي بهذه القامة الفنية الرفيعة.
وكما يذكر الباحث فإن الموشحات اشتُهرت في سورية وارتبطت بحلب، رغم أن ولادتها كانت في حمص، ولم تحقق في مصر الانتشار والشهرة حتى إن الموسيقار محمد عبد الوهاب لم يلحن إلا موشحين لعدم رواجه هناك.
وقد أفرد الباحث قسماً من المحاضرة للحديث عن مقومات الموشح وخصائصه، وتطرق إلى التوشيح الديني وتنوّع المقامات وبقي القسم الأكبر للاستماع إلى الموشحات.
وعلى هامش المحاضرة تحدث الباحث عن مهرجان مالوف الذي يُعنى بغناء الموشحات ويشارك فيه عدد من الموسيقيين السوريين. وتأتي هذه المحاضرة ضمن سلسلة التعريف بالصياغات الموسيقية اللحنية التي بدأت بالقصيدة والآن الموشح.
البهرجة اللفظية
بدأ الباحث وضاح رجب باشا بالتعريف باشتقاقات كلمة الموشح من وُشح وتوشيح ووشاح، ثم تناول معناها اللغوي، ويعني الوشاح الرداء الذي ترتديه المرأة بقصد الزينة وليس بغية التدفئة، ويكون مطرزاً بخيوط مذهبة ومرصعاً بالأحجار الكريمة إذا كانت المرأة من علية القوم، هكذا حال الموشح في الموسيقا فهو إظهار الجمالية من خلال قالب غنائي معيّن يتفرد عن بقية القوالب من ناحية اللحن والمفردة، فليس كلّ من ينظم الشعر يستطيع كتابة كلمات الموشح المعتمدة على البهرجة اللفظية -كما يقول الباحث- إذ يصاغ الموشح باللغة الفصحى ضمن إطار خصائص الشعر القديم المقفى، ويتمّ تغيير القافية كنوع من التزيين، ويأتي أيضاً باللهجة العامية المحكية ويتطلّب براعة من الملحن، إذ لا ينجح الملحن الذي يلحن القصيدة بتلحين الموشح لأنه يقوم على قالب موسيقي خاص. وبعد التعريف بالموشح بدأ الجانب السمعي في المحاضرة بالإصغاء إلى موشح قديم كلمات محمد الهلالي: “كوكب الحسن أدار/ في الدجى شمس النهار”.
وتوضح مفهوم الموشح من خلال حديث الباحث عن سلسلة موشحات غناها المبدع صباح فخري من مقامات مختلفة تأليف عمر البطش، منها موشح: زارني المحبوب كلمات البوصيري:
“زارني المحبوب/في رياض الآس/ قلتُ له يا زين/ يا رشيق القد/ ياكحيل العين/ يا نديّ الخد”.
مفردتان من شكل الموشح “يللي– أمان”
ثم تطرق الباحث إلى تاريخ الموشح وخصائصه، إذ يُنسب إلى الدولة الأموية وكان له شعراؤه، ووجد في الشرق والغرب ويقصد بالغرب (الأندلس) من الناحية الجغرافية واشتهر به اسحق الموصللي وزرياب كما جاء في كتاب “من كنوزنا” للدكتور فؤاد رجائي. وتابع أنه رغم ولادة الموشحات في الشرق إلا أنها اتسعت وتطورت في الأندلس، واشتهر آنذاك “الحصري” بكتابة الموشحات وهو أحد شعراء الخليفة المعتمد بن عباد، وورد الكثير من الموشحات من تلك المرحلة الزمنية في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، الأمر اللافت أن الموشحات تتميّز بمفردات وتعابير تتناغم مع اللحن البسيط البعيد عن التعقيد.. مما يجعلها قريبة من النفس تلامس القلوب بشفافيتها، ولعلّ أجمل الموشحات المغنّاة كانت بصوت فيروز “جادك الغيث”:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يازمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلماً
في الكرى أو خلسة المختلس
ثم تعمّق الباحث في خصائص الموشح الذي مرّ بمراحل وأشكال متعددة وكانت مدته تصل إلى عشر دقائق، إلا أنه اختُصر إلى ثلاث دقائق ونصف أو أربع دقائق ونصف، وغدا وفق النمط الموسيقي التالي، ويتألف من دور أو دورين أو ثلاثة أدوار وبعده تأتي خانة أولى ثم خانة ثانية ثم خانة ثالثة وتتخللها القفلة، وتوقف الباحث عند سمة وجود مفردتين تتكرران في الموشحات ويكاد لايخلو موشح منهما، وهما “يللي- أمان” ويتصف الموشح بالغزل بالمرأة أو بجمال الطبيعة أو بالتلذّذ بالخمر مثل موشح “أهواك يابدر ابتسم”.
الموشح والتوشيح
وفي القسم الثاني من المحاضرة تعرّض المحاضر إلى الفرق بين الموشح والتوشيح الذي يخطئ -بوصفه- كثيرون، ويقصد بالتوشيح الغناء الديني والتغزل بالذات الإلهية على خلاف الموشح الذي يتغنّى بمباهج الدنيا ومفاتن المرأة، وأضاف: إن التوشيح الديني يحتل الصدارة في المناسبات الدينية والأمسيات والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، وقد عمل الملحنون على استخدام بعض ألحان الموشحات بالتوشيحات الدينية التي كانت سابقاً ترتبط بالمزهر فقط، أما الآن فأصبحت ترافقها الآلات الموسيقية وأفرد مساحة للاستماع إلى بعض الموشحات الدينية، منها موشح ذبتُ شوقاً لمحي الدين بن عربي:
“ذبتُ شوقاً للذي كان معي/ أيها البيت العتيق المشرّف/ جاءك العبد الضعيف المسرف/ عينه بالدمع شوقاً تذرف”.
التنوع في المقامات
وفي نهاية المحاضرة عاد الباحث إلى الخصائص الموسيقية للموشح، فأكثر الملحنين استخدموا مقام الصبا لأنه محدود المساحة ويتناسب مع قالب الموشح، إلا أن بعض الملحنين اعتمدوا على مقامات مفتوحة وفيها مساحة كبيرة يجدّد فيها الملحن في صياغة جمله اللحنية مثل مقام جهركاه ومقام حجاز كما في موشح “ما احتيالي يا رفاقي”، وناقش خصوصية عدة موشحات مثل سلطان الملاح وأحنّ إلى ديار سلمى، وموشح اشتُهر في العراق على مقام اسمه “اللاين” “أقمار حسنك تجلّت” وتوقف عند الأجمل والأكثر شهرة وحزناً ليختم سطور محاضرته.
“مالي أرى الشمع يبكي في مواقده/ من حرقة النار أم من فرقة العسل”.
ملده شويكاني