ثقافة

“ضـريبـة اللبـاقـة” من الأدب الأرمني.. مـواقـف سـاخــرة فــي إطــار مــســرحـي

ارتبط الشعب الأرمني بعلاقات متينة مع الشعب العربي منذ غابر العصور بروابط جغرافية ،وقد أُعجب المؤرخون الأرمن في القرون الوسطى مثل سيبسوس وغيفوند بكنوز الأدب العربي ،ومع تتالي العقود اهتم كثير من أدبائهم بمؤلفات ياقوت الحموي وابن رشد والكندي والمعري ،ثم ازدادت حركة الترجمة والتبادل التجاري واتسعت دائرة التأثر باللغة العربية مع بداية الفتح الإسلامي ،فدخلت 700مفردة عربية إلى اللغة الأرمنية كما بدا تأثر الشعراء الأرمن بالشعر العربي وبقواعد اللغة العربية ،وفي الوقت ذاته نُقلت إلى العربية أساطير الأرمن وعاداتهم وتقاليدهم وحكايات الميثيولوجيا والخرافة والفانتازيا ..لكن الأشهر كانت كتاباتهم عن صراعهم مع الأتراك ومعاناتهم من قسوتهم.
ورغم ذلك بقيت مكتبتنا المعاصرة تفتقر إلى الأدب الأرمني المترجم ،وقد ارتأت الدكتورة نورا أريسيان ترجمة مجموعة قصص مسرحية (ضريبة اللباقة) للكاتب هاركوب بارونيان الذي اشتُهر بالأدب المسرحي الساخر إضافة إلى كتاباته الصحفية اللاذعة ،وهو من أشهر الأدباء في عصره (1843-1891) اعتمد في كتاباته على المفارقات الاجتماعية والسياسية والحياتية ،ومن أهم مؤلفاته (المتسولون الشرفاء- المتملق-خانم ومعلمان) .ومن المعروف انه أُطلق على الأدب الساخر مصطلح “أدب الذكاء” لأنه يحوّل لحظة الألم إلى إبداع ويتغلغل بعمق المفارقات ،ليظهر بوضوح وبصورة مدهشة مفاجأة تشبه قفلة القصة القصيرة تنم بجرأة عن المسكوت عنه بصوت مرتفع ،وتمتاز هذه القصص بدقة مضمونها اللغوي كونها مترجمة دون لغة وسيطة من قبل المترجمة عن اللغة الأرمنية مباشرةً.   وتتسم هذه المجموعة بتقنيات المسرحية الكلاسيكية من حيث تتابع الحوارات المقتضبة والتركيز على الوحدة الكاملة للمشهد من حيث الزمكانية الواحدة، والمحتوى العام مستمد من عنوانها (ضريبة اللباقة) من اللباقة التي تفرض على الإنسان ردود فعل تجاه تدخلات الآخرين وقبولهم بصمت إزعاجاتهم .وتأتي هذه القصص المسرحية في إطار ساخر ينطلق من كوميديا الموقف ،ويكون أقرب إلى السلوكيات اليومية الاجتماعية ويدخل بعمق المفارقات أثناء تطبيق قواعد اللباقة ،وعمل الكاتب هاكوب على إيجاد نماذج مختلفة من الشخصيات والطبقات والشرائح ،فنقرأ ومضات من سلوكيات الثرثار والبخيل والاستغلالي والمتطفل والمتعجرف والظالم والمسيطر، وهم محكومون بالقواعد الزائفة للأدب واللباقة، وينتقد فيها بشدة المظاهر الزائفة والسيئات والطبائع المتجذرة في حياة الأغنياء والطبقة الوسطى في المجتمع التي تفشت وساءت إلى طبقة الفقراء .والأمر اللافت أنها عنوّنت قصصها بالأحرف الهجائية لتكون أشبه بسلسلة متتابعة..ورغم الشكل المسرحي إلا أنها كانت غنية بالأفكار والتوضيحات التي تصوّر أوضاع الحياة في تلك الأزمنة من حيث غرابة الأسماء مثل (طوروس –بايبك –هامبارتسوم –أبيميليك) إضافة إلى غرابة الأمكنة والطقوس المتبعة التي تحكمها اللياقة ،فيركز على القصور والمنازل الكبيرة والقواعد السلوكية التي تحكم تلك المنازل ابتداءً من الباب الرئيسي حيث يرافق الخدم الضيوف إلى الطابق العلوي ليرسم لنا بالكلمات السلوكيات الخاصة باستقبال الضيوف والترحيب بهم وفي منحى آخر تطرق إلى قواعد اللباقة التي تفرض على الإنسان الالتزام بثياب معينة تصل إلى حدّ ارتداء الحذاء الضيق ،وأفرد مساحة لمعاناة الناس البسطاء الذين ترهقهم أعباء الحياة فيستدينون ويجدون صعوبة في التكيف مع الواقع ،وفي كل قصة يتوقف عند حادثة معينة يصف من خلالها الأمكنة والمقاهي والشوارع والترامواي والمحال وآداب الطعام والحديث والإصغاء إلى الآخر، “كما في القصة “أ” إذ يمضي مع بابيك آغا الذي يضطر إلى السهر أمام المدعوين في منزل أحد الأصدقاء ،ويقاوم النعاس ويلعب الورق ويُرغم على رقص البولكا ..وحينما يعود إلى منزله يدخل السرير لكنه لايستطيع النوم إلا في الصباح وقتما يستيقظ الجميع ويذهبون إلى العمل “أنت تنام يا بابيك آغا/لستُ نائماً/إذا أردت ارقص رقصة البولكا/لكي يختفي نعاسك/أنا لاأعرف البولكا/تتعلمها/اسمحوا لي محبة بالله/أن أذهب إلى الغرفة المجاورة/وأنام قليلاً/مستحيل وهل ينام المرء في الحفلة”.
وفي القصة “ح” يتناول السلوكيات الخاصة بالاحتفال بعيد الميلاد والاحتفاء بالضيوف الأكبر سناً مما يسبب إرباكاً لابنة صاحب المنزل :”ويقدم الراهب تمنياته البسيطة وما أن يلمس الملعقة حتى تقع الصينية من يد الفتاة فتندلق الحلوى عليه فيرتبك الضيوف”
في المجموعة الكثير من المواقف الساخرة وما يزيد من جماليتها بساطة اللغة والمشهد المسرحي المثير.
مِلده شويكاني