ثقافة

قراءة في ديوان “أنا عشتار أنا امرأة” للشاعرة غادة فطوم

وبحالاتٍ مُترجرجةٍ، لا استقرار فيها، ولا هدوءٍ يتهادى بين جُملها السّاخطةِ حيناً على الرجل/ الذكورة وحيناً تتلقّاهُ بالورود وباقاتٍ من ياسمين الاشتياق، هاهو يقول: /أنا تموز، أنا رجل/ رداً مشاكساً بعض الشيء، تتلمّس بين حروفه طراوة النّداء، ورعشة التلاقي، حين تقول صارخةً للذين لا يفهمون من المرأة/الأنثى إلا الشهوات، والطبخ والنّفخ، وإنجاب الأطفال مثنى وثلاث ورُباع، و.. تقول:
/ لن أكون كما تشتهي، لن أصير كما تشتهي! لأني المرأة الإنسان/ وعنونت الديوان بِــ/أنا عشتار، أنا امرأة/
وروعة الحوار في هذا النتاج الشعري، أنّه الاختلاف، وليس الخلاف، بين المرأة والرجل/ عشتار وتموز ولكون الشاعرة غادة فطوم تتكلم، وتروي الحوارات التي في أنساغها تتباين حبكة الصراعات، والانهيارات النفسيّة، عندما يتسيّد الرجل، جاعلاً من نفسه “الأقوى” والمرأةُ هي “الأضعف” في مجتمعاتٍ لا تعرف إلا أنَّ المرأة خلقها الله فقط “خادمةً ومطيعةً” للرّجل في كل شؤون الحياة، وليس لها إلا أن تطأطئ الهام للسيّد الرجل؟!
تقمّصت الشاعرة “عشتار” وروت عن لسان “تموز” بمهارةٍ لا تُضاهى، وتتالت الصُّورُ الأخاذة، وانداح بريق الاستمتاع بالقراءة، تكاتفت الجمل وتعانقت لتؤلف عملاً.. يليق بمسْرحتهِ!
هاهي ملتاعة، ملهوفة، تبحث عن عشيقها الذي راح في غيبةٍ طويلةٍ، علَّه يلقى صديقه المغيّبْ كما تقول الأسطورة السومرية: جلجامش يبتغي “عشبة” الحياة وضحى بصديقه الذي بكّاهُ طوال حياته، فقدهُ وجن جنونه عليه واقسم أن يقتل قاتل صديقه، وطال الصراع بينه وبين “خمبابا” حارس الغابة، حزن العمر المتبقي من حياته عليه، حزن الخنساء على أخيها صخر؟!
تقول عشتار: /ومضيتُ أبحث عن تموز، في أسئلة الوقت، في جرح دمي قرب فمي، قرب النهر المنحدر على صدري في ترتيلة مزمار/ ص 13
الشاعرة، لا تقايض أيَّ شيءٍ في الحب، بإنسانيتها، هي تُكابرُ إلى حدودٍ، وتخوم “النّرجسيّة” التي ترى أن الحياة ليست رجلا / ذكراً وكفى، والحياة ليست امرأةً /أنثى! وكفى بالمجتمع شر الصراع والتقاتل؟! والقتال.
الحياة من خلال رؤيتها، وثقافتها الحضاريّة هي “التَّشاركيّة” والتّصالحية، والسّيرُ معاً في طريق الأحلام، والحياة حالة من حالات التكافل، والتوافق، مابين المادة والروح، والأنسنة في التعايش المجتمعي، لذلك قال أحد الفلاسفة حول المرأة: “المرأةُ هي أمُّ المجتمع لا نصفه” تقول عشتار: / خذني ياتموز لصهيل جنونك، واعبُرني شطآن الرعشة، اهصرني، أتعرَّى من وهمي، أتجدد في أمطارك، وأذوبُ على صدركَ مثل الدمعة في الأنهار، مرِّغْ شفتيك على جرحي/ ص 16
إنها المناجاة التي تتجوّل “تلْفانةً” في دواخِلِ الروح، وارتجاج المسافات “الفارضيّة”؟!
هل هذه المناداة، والمنادمة الصّاحية، المُتأججة كنيران المعابد في موسم أعيادها، واحتشاد الناس على بوّابات المزارات وروائح العطور، والبخور، والنّذور، والهتافات، والأغاني، وحمى الابتهالات! هي ما شعرت به “عشتار” وعن لسان الراوية الشاعرة “فطوم” بأنها، كأنّها هي وحدها في أتونِ مخاوفِ، وخداع هذه الحياة؟! إنّها غابةٌ ومفزعةُ، مرعبةُ لا مزمار، لا ترنيمة لأغنيةٍ، أو سقسقة لماء جدول – يُؤنس وحْشة الخوف – يمازح ضفته!
نائماً بغفوة “المريدة” المطمئن، يحلُم بالمواسم واللّيالي العامرة؟!
وتتالى الأفعال الآمرة “الضّارعة” ترسُم حالات استشراقية لاشتياقات خبيئة، تتناوق بين الحين والآخر مثل: “خذني، اعبرني، اهصرني” والمتوددة مثل “أتعرى، أذوب، قبّلْني” وهاهي عشتار تصرخ من عزّة النفس: / تموز يا تموز/أأنت قاتلي؟ أم نبع الحياة، والحنان؟ ينهضُ تموز من دمه، وتميسُ عشتار/ ص 30
هذه الحالات اللافتة، والمواقف الصّاخبة، التي تتنامى باندهاشٍ غرائبي، بين شجون الأسطورة التي أوهمت، أو تكاد القارئ، بأن الشاعرة هي التي تهجسُ، وتتكلّم، عن المرأة الأخرى المفترضة، التي ذاب بعشقها وأفنى حياته قرباناً في استمراريّة هذا التّصاهر والاندماج الشّهويَّ في غفوة الحياة ويقظتها، وهذا ما تبيّن من خلال “الإهداء”: /خذوا كل الأشياء، واتركوا لي قلبي الوحيد فأنا يا تموز في حبك أغدوا غجريّةً أغدو في حبّك غجريّة / ص 17  فما هويّةُ هذه “الغجريّة” التي تبنّتْها، ورصدتها الشاعرة أو ليست هذه أنثى/امرأة تحب وتعشق، وتمارس حياتها كمثل أيّةِ امرأةٍ أخرى من بنات جنسها؟! أم أنها المرأة الغريبة الأطوار، والخارجة عن قوانين المجتمع التي فيها تتكامل وتتراءى مقوّمات الحياة؟ أن تكون هذه الصّفات حسب تصوّر “شاعرتنا” امرأةٌ “مُسْترجلةٌ”!
/فلا تنتظر سيدي، أن أراقص دمعي في مراياك، أن أجيء إليك باكيةً، وأرجوك أن تضمّني إلى سباياك أن أنحني، فذاك مُحال عليك. /ص 56
وبكلِّ جرأةٍ، واعتزاز بالمواقف، واختزال، وارتقاءٍ بالصُّور الشعريّة التي تتراقص وتتباهى على بياض الديوان، يليقُ للشاعرة أن تعتزَّ وتفتخر بأن حققت، ولو بصيص ضوءٍ من انتصارٍ في نفقٍ مظلم يمتدُّ منذ الحالة “الوأْديّةِ” وما قبلها، وبعدها أن نلمح ولو بارقةً من ضوءٍ ينير جهالة الذين لم يُنصفوا، وما أنصفوا حتى لآن بأن المرأة شريكةٌ في الحياة، لا أجيرة مستخدمة أو سبيّة، وجارية؟! وهذا “قسمٌ” من عشتار المرأة تقول فيه وعلى ذِمّةِ الراوية شاعرتنا، التي وهبت هذا القسم بعضاً من جمالية التوليف الشعري هاهي تروي: /ضع يديك في يدي، وانظر في عيني، وأقسم، بالذي تؤمن به، بأجدادك الغابرين، بأحبابك العابرين، إنني أجمل امرأة رأيتها، وأنَّ قلبك، لم يضطرب لسواي، فسأصُدّقك، مع أنني مُتأكدة جداً، أنَّك لا تقول كل الحقيقة/ ص 44
ولكون شاعرتنا، تكتب القصة والرواية، كان الديوان في بعض مُقطعاته الشعريّة يميل إلى أسلوب القص الشعري، وهكذا تناحرت القصائد بين عشائر وقبائل القصّة، والرواية، وقصيدة “أرجوحة الظل” شاهد على ما أقول، ديوان شعري مغموسٌ بعسل الحياة، مناجاةٌ ذكوريّة، وبلوغةٍ عشتاريّةٍ لا فتةٍ، تهتك ستْر المجاملات “تعال خذني فأنا سريركَ الدافئ، والوسادة المشتهاة، واللّحاف السّاتر تأوّهات اللّذاذات”.
وبكل جرأةٍ، واعتزازٍ بالمواقف، بأن “الأسطورة” ليست وهْماً، وضرباً من ضروب المراوغة والخيال، بل هي حقيقة، رصدت فيها حياة المجتمعات البشريّة منذ الخلق، ويقولون أن بين تضاعيفها أي الأسطورة يتراءى الخيال واللّاعادي، فهذا تزيينٌ لشدِّ القارئ وعدم الشعور بالملل؟!
الشاعرة “غادة فطوم” أجادت، وأبدعت، ولا أدري إنْ هي تقمّصت “عشتار” في هذا الديوان، أو تمنّتْ أن تكونها؟! لكنها وهذه حقيقة، تكلمت، وروت، مادار وجرى مابين الثنائي عشتار + تموز= الأسطورة، ويُقال أنّها أسطورة “آدم وحواء” والحوار الذي دار بينهما، حينما التقيا، وراحا بعناقٍ والتصاقٍ أبديٍ ليولد هذا العالم، كما نراهُ اليوم، ومنذ ذاك الزمن “حسب الأسطورة” بدأت الأقاويل: “من قضم التفاحة” أوّلاً؟ ومنذئذ، بدأ الخلاف الأزلي، وحتى صيرورة وسيرورة هذا التكاثر البشري؟!

“أنا عشتار أنا امرأة” للشاعرة غادة فطوم- دار إنانا للطباعة والنشر 2006

خضر عكاري

khudaralakari@hotmail.com