في شعر عباس محمود العقاد ونزار قباني” مساجلة تنتصر للمرأة
احتلت المرأة جانباً هاماً في وجدان الشعراء فجاء شعرهم متفاوتاً في تصويرها كل حسب وجهة نظره، فمنهم من خصها بقصائد الغزل، ومنهم من رأى فيها إنسانة مظلومة فتبنى قضيتها والدفاع عنها. وهناك من كان له نظرة مزدوجة فصورها كأنثى وكإنسانة من حقها ان تحقق ذاتها ووجودها وتمارس قناعاتها وأفكارها، فقدمها مثالاً حياً للفكر النهضوي الذي يحتاج له المجتمع ليكون سليماً معافى بقيم تنصف الأفراد جميعاً.
و برز التناقض الشعري في النظرة للمرأة عند شاعرين تميزا بشعرهما وأدبهما حيث صور كل منهما المرأة بوجه مختلف وهما الشاعر والأديب عباس محمود العقاد والشاعر نزار قباني فقد دارت أقاويل وأحاديث كثيرة حول مناصرة نزار للمرأة وعداء العقاد لها، لكن هذه الأقاويل كما بين الباحث عصام الحلبي في كتابه الذي حمل عنوان: “المرأة في شعر عباس محمود العقاد ونزار قباني” ليست مطلقة فالشاعران نظرا إليها من جوانب مختلفة، كلاهما صوراها كأنثى فقط
فمثلاً الشاعر نزار قباني دافع عن المرأة في كثير من قصائده وهو الذي قال يوما: “أنا درست الحقوق لكنني لم أمارس مهنتي كمحامي إلا في الدفاع عن المرأة والحرية، دافعت عن الأنثى والوطن الكبير الذي تشكل المرأة الدعامة الأساس في رفعته وازدهاره من خلال وعيها لحقوقها وواجباتها” فيقول:
يعانق الشرق أشعاري ويلعنها فألف شكر لمن اطرى ومن لعن
فكل مذبوحة دافعت عن دمها وكل خائفة أهديتها وطنا
أنا مع الحب حتى حين يقتلني إذا تخليت عن عشقي فلست أنا
أما العقاد فإنه حسب ما أوضح الحلبي لم يكن عدواً للمرأة سواء في حبه لها من جهة وبين آرائه فيها من جهة أخرى، فهو مثلاً قد أعجب بمي زيادة وأدبها وثقافتها وحديثها وأنوثتها، وقد كان من المداومين على حضور جلسات صالونها الأدبي، وكان يزورها ويكتب لها رسائل مليئة بالوجد والشوق مما ولّد لديه إعجاب مهد لحب حقيقي بدأه بالإعجاب بأدب مي وامتدح أنوثتها وصفاتها العقلية والنفسية.
وقد عاش العقاد نوعين من انواع الحب.. الحب الجسدي الذي كانت الغيرة والشكوى تمده بالحرارة والعنف، وحباً أفلاطونياً بعيداً عن منزع الشهوة والرغبة وقد عبر عنهما قائلاً: لقد أحببت في حياتي مرتين: سارة ومي زيادة. فكانت الأولى مثالاً للأنوثة الدافقة حيث لم يكن يشغل بالها إلا الاهتمام بجمالها وأنوثتها، والثانية هند “أي مي” وكانت مثقفة قوية الحجة تناقش وتهتم بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها أي كان اهتمامها موزعاً بين العلم والأنوثة. وقد كان نصيب مي من أدب العقاد شعراً جميلاً من أجمل ما نظم، فقد قال مخاطباً مياً عروس أحلامه وملهمة شعره:
أعروس أحلامي وملهمتي معنى الحياة وفتنة السحر
أدعوك دعوة عابد وصب يزجي الصلاة لمريم الطهر
كوني إذا ما شئت منعمة حوريتي في مقبل العمر
وعن المساجلة التي بدأت بين العقاد والقباني فيوضح الحلبي عندما قال العقاد أن نزار قد دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه، وهذا مجاز من القول حقيقته أن شعر نزار قد استغرقت كثرة كثيرة منه يعقبها في نواحي المرأة التي يوحي بها لفظ المخدع في كلام العقاد، وهذا صحيح إلى حد بعيد إذا أسقطنا جانب المبالغة في أحكام الأدباء والشعراء، ولـ “نزار” نفسه من هذا النوع من الأحكام قدر لايستهان به، وقد توفي العقاد قبل ثلاث سنوات من تاريخ التحول في شعر نزار وفي شعر غيره من الشعراء العرب المعاصرين، حيث أخرجت حرب حزيران الأدباء والشعراء والمفكرين من قوالبهم القديمة وألبست شعرهم حلة جديدة. وقد رد نزار على كلام العقاد هذا بقوله:
“يقول عني الأغبياء/ أني دخلت إلى مقاصر النساء وما خرجت/ ويطالبون بنصب مشنقتي/ لأني عن شؤون حبيبتي يوماً كتبت/ أنا لم أتاجر بالحشيش/ ولا سرقت لاقتلت”
لقد ظُلم العقاد في هذا الوصف خاصة وأن أفكاره اتصفت بالوضوح في التعبير والدقة في الحكمة، وربط التجربة والانفعال برباط محكم من الروية والاتزان، وقد تمتع بشهرة عمت العالم العربي فدعي عملاق الادب العربي والمعلم وأبي الأدب والنقد الحديث، وقيل أنه صاحب دولة عربية ودعوة جديدة ومقوم ومقيم للأدب، وفيلسوف وصاحب عقل موسوعي. وقد أضاف العقاد لكل ألقابه هذه قوله: “إني كاتب الشرق بالحق الإلهي”.
وفي كتابه “قصتي مع الشعر” يرد نزار قباني نثراً على كلام العقاد قائلاً:
“إن ما قاله العقاد يعكس ازدواج المثقفين العرب، فالمثقف العربي مهما اتسعت آفاقه وكثرت معارفه ومطالعاته وتجاربه تبقى عقدة الجنس مدفونة في أعماقه، وتبقى المرأة لديه مصدراً من مصادر الخجل والعار، والذي يحيرني في العقاد أنه لم يكن محروماً ولا متأزماً من الناحية العاطفية فعلاقته بمي زيادة وسارة ليست علاقات سرية”.
لقد ارتبطت أشعار نزار بالمرأة بشكل كلي -كما يشير الحلبي- بل إنها أصبحت مادة ملازمة له في شعره وحتى في قصائده الوطنية أُقحمت المرأة، لكن التساؤل الذي يفرض نفسه هل كان نزار نصيراً للمرأة؟ هل دافع عنها وعن قضاياها أم أنه اعتبرها متاع الدنيا ومن ممتلكاته؟ وللإنصاف نقول إن الشاعر نزار قباني دافع عن المرأة وعن قضاياها بكل جرأة وحماس وتعرض لأشياء كثيرة تتعرض لها المرأة سواء من الأهل ام من المجتمع، أما تصويره الاباحي لها في أشعاره فقد كان حالة من الوضوح مع ما يعتبره الناس شيئاً محرما فأتى نزار ومزّق النقاب عن هذا الإثم وصورها كمخلوق تتكامل لديه صفات الروح مع الجسد وكتب أجمل ما كتب في المرأة سواء الشعر الاباحي او الغزلي الناعم الرومانسي فيقول:
“أحبيني بلا عقد وضيعي في خطوط يدي/ أحبيني لأسبوع لأيام لساعات/ فلست أنا الذي يهتم بالأبد/ أنا تشرين شهر الريح.. والأمطار والبرد/ أنا تشرين فانسحقي كصاعقة على جسدي”.
أما العقاد فيقول في المرأة:
وبي سكر تملكني وأعجب كيف بي سكر
رددت الخمر عن شفتي لعل جمالك الخمر
نعم أنت الرحيق لنا وأنت النور والعطر
وأنت السحر مقتدراً وهل غير الهوى سحر
هذا ما قاله العقاد شعراً –يضيف المؤلف- أما رأيه بالمرأة كباحث ومفكر ومتقص للحقيقة الأزلية للمرأة كيف تفكر وكيف تحب إلى ما هنالك من الأمور الإنسانية والمبدئية لديها وأجمل آرائه في كتابه “سارة” حيث قال عن نفسه أنه قليل المرح ويروقه في المرأة أن تكون مرحة بدون تكلّف ولا مبالغة.. كما يحب المرأة التي تدرك الفكاهة ويكره التي تتخذ من فكاهتها معرضاً مفتوحاً في كل ساعة، ومحب للمرأة التي تستطيع أن تكون إنساناً في بعض الأوقات بمعزل عن أنوثتها وغرائزها فلا تكون هي كل وظيفتها في الحياة.
ويخلص الكاتب إلى نتيجة أن البعض أجحف بحق العقاد عندما نقلوا عنه أنه عدو المرأة وأنه يحقد عليها، لكنهم لو دققوا النظر وأعملوا الفهم لوجدوا أنفسهم في موقف المتجني على هذا العملاق وما كتبه تلميذ العقاد أنيس منصور عقب وفاة أستاذه في هذه القضية يعتبر إيضاحاً له ورداً على من رموه بتلك التهمة إذ قال:
“إن ما كتبه العقاد عن المرأة يدل على أنه فهمها بوضوح وكأنه عرف المرأة منذ كان اسمها حواء إلى أن أصبح اسمها مي وإليزا أو هنومة، ولم تكن معرفة العقاد بالمرأة مجرد معرفة أو دراسة وبحث بل كان محباً وعاشقاً وعرف جروحاً في كبريائه”.
لقد كتب الأديبين الكبيرين العقاد ونزار في المرأة فقد كتب العقاد فيها النثر والشعر وكشف عن داخل نفسها وطبيعتها ومشاعرها، وكتب نزار قباني أيضا الغزل والنثر والشعر العذري والجسدي والإباحي والرومانسي وقد اختلف الاثنان في آرائهما فكان في خلافهما فائدة أدبية لكل مهتم بالأدب والشعر.
سلوى عباس