ثلاثية الكاتب والمتلقي والرقابة في ميزان التصالح مع النص… الأديب مفيد عيسى أحمد: طالما أؤمن بتأثير الكلمة يجب أن أعرف إلى أين مؤداها
مفيد عيسى أحمد.. ذاكرة تحتضن إنساناً مضى، ووعي يختزن تجارب أشخاص ربما مضوا، ولكنهم ما زالوا حاضرين بأحاسيسهم ومشاعرهم في أعماق ذاته.. في إبداعه يجتمع الزمان مع المكان، ويتعانق عبق التاريخ مع عطر الحياة، فيغزلان قصيدة عشق، اختزلها المكان في ذاكرته تاريخاً يحكي حكاية إبداع بكل ما تحمله من أفراح وأحزان.. من آمال وخيبات.. أحلام وانكسارات..
“البعث” التقت الأديب مفيد عيسى أحمد، وقفنا وإياه على أعتاب تجربته الأدبية والحياتية، نقلب صفحاتها، نعيش مع شخصياتها، نسائل أنفسنا أمن الخيال هي، أم من واقع ما زلنا نعايشه، ولأشخاص سمعنا عنهم في يوم من الأيام.. بدأنا حوارنا معه حول رؤيته للكتابة، وكيف يعيشها، وهل تتطابق تجربته الأدبية مع تجربته الحياتية فأجاب:
التجربة الأدبية أكثر حرية بما لا يقاس من التجربة الحياتية، وإن كانت الأولى تستمد مادتها من الثانية. الحياة ضيقة بالمقارنة مع ساعة الكتابة التي لا يحد من آفاقها شيء. الخيال يلعب دوراً محدوداً في الحياة، بينما ساحته في الكتابة مفتوحة الآفاق. ربما هذا ما يجعلنا نسعى إلى تعويض ما ينتاب الحياة من نقصان بالذهاب إلى الكتابة، وهذا ما يمنحها بعداً أعمق، وفضاء أرحب من خلال إطلاقها بواسطة الخيال، طبعاً لحظة الكتابة لا تأتي بشكل قسري، وقد يكون لجوئي للكلمة نتيجة عدم الاتساق مع الزمن، الذي يعني أنني عاجز عن ليّ عنق هذا الزمن، أو التأثير فيه، وبالتالي لجوئي إلى الكلمة يعني لجوئي للفعل، وقد يكون لمحاولة الفعل، إن كانت الكلمة قادرة على الفعل أو ليست قادرة، لا أدري، ولكن تبقى الكتابة بحد ذاتها فعلاً جميلاً ومؤثراً.
< إذا اعتبرنا الكتابة مغامرة كيف تعيش متعة المغامرة أثناء الكتابة أم بعدها؟
<< الكتابة قلق ومغامرة تخلق حياة موازية، أنا أجد أهمية الفكرة وجماليتها بعد انتهاء الكتابة، طريقتي في الكتابة أنني أقرأ ما أكتب أثناء الكتابة، والمغامرة تظل معلقة لحين انتهاء الكتابة حتى نحكم عليها أنها مغامرة موفقة أم لا.
< وإلى أي مدى أنت حاضر في شخصياتك؟
<< مقولة (ليس هناك من نص لا يشبه صاحبه) صحيحة ولم تأت من عبث، طبعاً أنا حاضر بشكل لاشعوري، أي لا أتعمد الحضور، خاصة في بعض القصص، ومن أساسيات النجاح في الكتابة تمثل الآخر، لكن هذا الآخر لابد أن يحمل شيئاً من وعيي، وهنا يكون الحضور، ليس في الشخصية والسمات النفسية لها، قد تكون شخصيته مختلفة تماماً، وقد تكون شخصية ليست ذكورية.. قد تكون شخصية لاتماثلني في الوعي، طبعاً بما معناه التجربة الحياتية والأرضية الثقافية، لكن لابد من أن يرشح لهذه الشخصية شيء من وعيي أنا ومن تجربتي أو من ثقافتي الحياتية.
< وهل تنحاز لشخصية من شخصياتك أثناء الكتابة؟ ولأي شخصية مثلاً للقوية أم للضعيفة؟ أم للتي تحمل من فكرك أكثر؟
<< نعم أنحاز.. هناك شخصيات تحمل كل هذه السمات، لكن أنا أنحاز للشخصية الحقيقية، التي تحمل رؤية، الشخصية ذات التأثير الأكبر التي إذا خرجت أنا من النص وقرأته كمحايد يبقى تأثيرها الكبير، أنحاز لهذه الشخصيات.
هامش الحرية
< وهل تعطي هامشاً من الحرية لشخصياتك، أم أنك تمسك بزمام أمورها ولاتدعها تفلت منك؟ وهل الحرية التي تمنحهم إياها هي جزء من حريتك؟ أم أنك تعطيهم الهامش الذي تفتقده أنت؟
<< هذه الحرية قد تكون حرية جمعية، ليست حريتي أنا، وإنما حرية الآخر، سواء في المعتقد أو السياسة، أو الحب أو أي شيء آخر، قد يكون كما قال فرويد عن الكتابة “شيء من التعويض” لكن أحاول أن أطلق شخصياتي، طبعاً هناك قيود ذهنية من الصعب تخطيها. قيود لها علاقة بالإرث بمعنى أنني لا أستطيع أن أكتب عن الجنس، كما يكتب ميلر، لأن مجتمعي في الأساس نظرته عن الجنس مختلفة عن المجتمع الغربي، وهذه قيود.
< هذا يعني أنك تكتب ضمن اعتبارات وضوابط نفسية مجتمعية؟
<< لا.. مثلاً في سياق الحدث أحاول أن أطلق العنان لشخصيتي، ضمن محددات معينة كمحدد الوعي، الثقافة، البيئة، الشخصية لها محددات سيكولوجية، قد أنجح بإطلاق العنان لشخصيتي أولاً، لكن هناك محددات لها علاقة بالإرث، هذه المحددات قد تكون لاشعورية عندي أنا.
< وفي نطاق الحالة غير السارة للكتاب والقراءة ومزاحمة الفنون الأخرى هل راودك سؤال ماذا أكتب؟ وكيف أكتب لجمهور تأخذه الفنون الأخرى؟ أو تشعر مثلاً بغربة في الكتابة، أو بخطابك مع المتلقي؟
<< بالتأكيد هذا هاجس الموضوع الذي أرغب الكتابة عنه، يفترض أن يلامس اهتمام القارئ، هذه مسألة أحياناً تلامس الخواء، أن لا يكون لدي موضوع أكتب عنه، الموضوعات موجودة بالتأكيد، إنما الموضوع الحار أو الذي له أهمية هو الموضوع الذي يجب أن يُكتب عنه، لكنه لا يكون متيسراً دائماً.
< وهل من جمهور محدد تتوجه إليه؟
<< عندما أكتب لا أضع في ذهني جمهوراً معيناً، أكتب بالمطلق، ولكن أطمح لأن يقرأني الجميع، في تجربتي الأخيرة حاولت كتابة نص أصل من خلاله للجميع، من القارئ العادي إلى القارئ النخبوي -طبعاً الناقد أعتبره في خانة أخرى- والحقيقة أنني من خلال الوسط المحيط بي قرأني بعض الناس الذين لم يكن لديهم اهتمام أدبي، أوصلت لهم ما كان طموحي أن يصل إليهم، ولكن أن يكون في ذهني قارئ معين أكتب على مقاسه لا إطلاقاً، وبالتأكيد عندما يقرؤني أي قارئ من أية سوية كان، ويقول لي أنت تقصد كذا في كلامك، إطلاقاً لا أستطيع أن أقول له لا أقصد هذا.
< ومن خلال تجربتك الحياتية والأدبية إلى أي درجة مازلت مؤمناً بالإنسان كقيمة؟
<< الإنسان قيمة لا تنتهي نهائياً حتى الأفعال التي تنتفي فيها الإنسانية تدفعني أكثر للتأكيد على الإنسانية، وعلى إنسانية الإنسان وما يجري الآن في الميل إلى العنف وإلى التصرفات التي تتنافى مع أدنى درجات الإنسانية العقلية الجمعية ساهمت فيه كثيراً.
< انطلاقاً من هذا الكلام أنت من جيل كانت لديه طموحات وأحلام وشعارات مرحلة مضت كنت مؤمناً بها. من خلال ما وصلنا إليه الآن هل مازلت متصالحاً مع واقعك أو قادراً على التعبير عن ذاتك سواء في حياتك الشخصية أم حياتك الأدبية؟
<< أنا لست متصالحاً مع الواقع على الإطلاق، وإن وصلت إلى مرحلة التصالح مع الواقع أو مع الذات لن أكتب كلمة بعدها، أنا أكتب لأتوازن، وأتصالح مع الواقع، أو مع الذات، إنما هذه الحالة تشكل دينامية للكتابة، عندما أتصالح مع الواقع أصل إلى حالة ستاتيكية جامدة لا تنتج شيئاً، لذلك أنا لست متصالحاً لا مع واقعي الشخصي ولا الواقع العام.
< ما قصدته من سؤالي أن الأحلام التي عاشت معك سخّرتها لتكون حافزاً أكبر لأفكار أخرى أو لإبداع آخر؟ فكيف يعيش مفيد الحلم؟
<< الحلم لا ينتهي.. بل ينتهي حلم ليبدأ آخر، جورج شحادة يقول: (نحلم أو نموت) وكازنتزاكس يقول: (الحياة والحلم شيء واحد) عندما ينتهي الحلم تنتهي الحياة، الحلم والذاكرة هما أقنوما الكتابة الأساسيان، طبعاً إضافة للغة كأداة توصيل وتواصل، وبدون حلم ليس هناك كتابة، الحلم حتى ولو وصل إلى درجة اليوتوبيا غير المعقولة هو أساس من أسس الكتابة، لذلك الحلم لا ينتهي إطلاقاً.
حضور النقد
< تقول إن الكتابة بحد ذاتها هي موقف نقدي؟ كيف تستطيع أثناء الكتابة أن تكون ناقداً لما تكتب؟
<< طبعاً أنا القارئ الأول لنصي، وعلى الأغلب في آلية الكتابة أعيد قراءة ما كتبته حتى على صعيد الفقرة أو النص، وأحاول أن أخرج من نفسي ككاتب، وأصل إلى حد القارئ الناقد، وبالتالي أكون الناقد الأول لنفسي أحياناً أحذف، وأحياناً أستمر، وأحياناً أخرى أترك الكتابة لفترة لكي أكون أكثر قدرة على الحكم.
< وإلى أي مدى وفقت أن تكون ناقداً محايداً لأعمالك؟
<< ليس بالمطلق لأن الفكرة عندما تتملكني وأتمثل شخصية معينة أو فكرة معينة على الأغلب قد يطغى هذا الإحساس على الملكة النقدية التي أحاول الوصول إليها، وقد يقلل هذا من شأن الملكة النقدية وأكتشف هذا فيما بعد.
< ومن منطلق رؤيتك النقدية لنصوصك، إلى أي مدى يمكننا المقارنة ما بين هذه الرؤية والرؤية النقدية الأخرى؟
<< نعود هنا للقراءات المختلفة للنص الواحد وما قيل في هذا الشأن من رولان بارت إلى التفكيكية وغيرها، إن كل قراءة للنص هي إعادة خلق أخرى، أو قراءة النص تعني قتله لقراءة أخرى، هذا ما نراه في التفكيكية أنا عندما أعيد قراءة (وليكن نصي إن كان قصة أو رواية) بالتأكيد حتى ولو كنت أنا من كتب هذا النص قد يتكشف لي شيء ما أو إحساس معين يكون غريباً عني نوعاً ما، هناك من قرأ نصوصي وكتب عنها، وأحسست أنه لامس شيئاً وقادني إلى رؤية شيء آخر لم أنتبه إليه، وهناك أيضاً من قرأ نصوصي وأحسست أنني لم أستطع أن أوصل إليه ما أردت وأعيد وأؤكد على ما قلته قبل قليل، إنني لا أستطيع أن أقول لأي قارئ مهما بلغ مستواه أنا لا أقصد هذا؟ وحتى للناقد.
< من هنا هل يمكننا القول إن النقد أنصف تجربتك؟ وهل حققت الكتابات النقدية عن أعمالك تقاطعات بين ما كتبت وما تمت قراءته أم أنه كان خارج نطاق المقصود؟
<< عن تجربتي كُتبت انطباعات نقدية، وكل انطباع كان يتناول هذه التجربة من زاوية معينة، وهذا لا أستطيع أن أحاكمه، أما كنقد متكامل لنص، إن كان نقداً تطبيقياً أو نقداً على مقاس نظريات أخرى، أو على مقاس الذائقة الجمالية، لا لم ينصف النقد تجربتي، وهنا أنوه إلى مسألة أن نصي ليس أكبر من أي نقد، ولكن ليس هناك نقاد متفرغون أو مهتمون، أنا أذكر في الثمانينيات والتسعينيات كان هناك أسماء تهتم بما يكتب، الآن غابت هذه الأسماء، وليست هناك أعمال نقدية للأسف وأغلب ما يكتب هو انطباعات نقدية.
النهايات المفتوحة
< أيضاً بعض نصوصك تترك نهاياتها مفتوحة، هل مردها لثقتك بقدرة القارئ على قراءتك ومشاركتك إبداعك؟ أم أنك تلجأ لذلك لتحرض لديه المخيلة؟ أم ماذا؟
<< بصراحة النهاية المفتوحة -طبعاً بالنسبة للقصة القصيرة النهاية مهمة جداً والنهاية هي من النقاط المهمة فيها- النهاية المفتوحة للنص تحتمل نهايات متعددة، هذه النهايات قد تأتي وفق الحدث، الشخصية وتطورها، وهنا تبرز ثقافة القارئ وذائقته الجمالية.. له الاحتمال الذي يريده.
< النهاية ضرورية في القصة كما قلت هل تقصد بذلك النهاية التي تضعها أنت أم التي يضعها القارئ؟
<< أنا لا أقصد أن الخاتمة ضرورية، ما قصدته هو كيفية وضع النهاية، هناك قصص تنتهي ولا تنتهي ولابأس من ذكر أسماء، مثلاً قصص أنيس إبراهيم ووليد معماري، هما يتقنان النهاية، تنتهي القصة ولا ينتهي تأثيرها كحدث ونص، هكذا أقصد النهاية التي تحرك الإحساس وتترك تأثيراً أكبر.
< ومن خلال مقولة إن العنوان عتبة للنص، إلى أي مدى تعتمد باختيارك لعناوين كتبك هذا المدخل أو العتبة؟
<< هذه المقولة صحيحة مئة بالمئة، بالمقابل هناك قول لجورج مور: أن لا تكتب عنواناً لكتاب نهائياً، طبعاً هذا القول نافل ومستحيل، لعبة العنوان مهمة جداً، الكتاب الأول الذي أصدرته لم أتعذب بوضع عنوان له (ثلاثة نداءات وتصبح نجمة) الكتاب الثاني (البطل في وقفته الأخيرة) اخترت العنوان من أهمية القصة في المجموعة، وقد يخالفني ناقد أو قارئ بأن هناك قصة أهم، كذلك من المهم أن يكون العنوان ذا دلالة على مجمل المجموعة، أما بالنسبة للرواية، فقد تعذبت فيما يخص العنوان لأنني حاولت اختيار عنوان غير تقليدي وبالنهاية كتبت عنواناً وجدت له مشابهاً بصراحة، أو تتقاطع معه بعض العناوين الأخرى فيما يخص الكلمتين وعلاقتهما ببعضهما ودلالتهما الماء والدم.
الرواية واستشراف الواقع
< تقول في أحد الحوارات معك أن بطل الرواية (حامد الشماميس) هو المعبّر عن هاتين الكلمتين ووظفته كشاهد منفعل أو شاهد سلبي، وأنا أراه الحامل للرواية، ألا ترى معي أن شخصيته تحتمل معالجة على الصعيد النفسي أكثر مما أعطيته من مساحة؟
<< ربما.. ولكن أنا راهنت على حامد كفطرة وأساس، الكل يصطدم بحامد في حالات الخيبة والتشابه، حتى في حالات أخرى كحالة العمل الثوري كان حامد شاهداً سلبياً ليس ذا فعالية، وبالنهاية كان متفرجاً وبقي على الشاطئ ليس له خيار آخر. أما العمل على البعد النفسي لشخصيته، فأنا حاولت العمل على هذا البعد وفق معطيات معينة تتعلق ببيئته وموروثه وبالصدمة التي تعرض لها، هكذا حاولت أن أقدم شخصيته!
< لكن برأيك حامد الشماميس انتهى؟
<< لا إطلاقاً، كلنا يحمل شيئاً من حامد أنا لا أعتبره انهزم، لكن لو أكملت الرواية يكون حامد هُزم.
< هذا ما كنت أتحدث عنه، بأنه لو اشتغلت على بنائه النفسي كحالة تحرر من الخوف القابع في دواخلنا جميعاً، خاصة وأنك تقول إن الكاريزما التي يتمتع بها تتأتى من الجنون الذي يبطن الحكمة؟
<< في مجموعتي الثانية توجد قصة بعنوان (لا جواب للخوف) شخص يكون في الباص تحت تأثير ما، وكمن ينسى نفسه يقول: أنا خائف ويكرر هذه الجملة مرتين، في أول مرة يتعامل معه ركاب الباص بسلبية أن أي شخص ممكن أن يكون خائفاً، وفي المرة الثانية يستثير الخوف لدى كل من في الباص، يكتشف أن كل شخص له خوفه، حامد الشماميس لم يستطع توظيف خوفه بالمنحى الإيجابي، بقي منفعلاً وعبداً لخوفه، جرب أن يتقيأ خوفه، لكن اصطدامه مع هذه الفئة من الناس رسخ لديه الخوف أكثر.
< والفتاة التي كانت تشكل له حالة من الارتياح والسكينة ألا يمكننا القول إنها كانت محاولة لتصالحه مع الحياة؟
<< تماماً كانت قراراً له، إذ لابد من وجود امرأة لكي تكون قراراً لأي رجل.
< من خلال هذه الرواية ورصدك لأحداث الستينيات من القرن الماضي إلى أي مدى أنت تستشرف عبر روايتك الواقع الذي نعيشه الآن، خاصة أنك كما قلت بدأت بكتابة الرواية منذ عشرين عاماً، واستكملتها في هاتين السنتين؟.
<< لنعد إلى النهاية المفتوحة والتي تنطبق على نهاية الرواية، وكل الشخصيات استمروا وهذا عمل مقصود، فيه توطئة أو تقديم لجيل قادم هو (ابن الجردي) الذي انتسب للجيش، أنا وظفت حتى المعطف العسكري الذي يرتديه حامد عندما يتعرض لعاصفة لا يحميه هذا المعطف وقد لبسه مرة واحدة فقط. وعندما تتزوج ساميا هذا الضابط، أنا أرمز هنا إلى فئة معينة هي فئة الانتلجنسيا مثلاً أو فئة المثقفين أو الفئة القادرة على قيادة التنوير، هؤلاء لم ينسجموا مع العسكريتاريا ولم يتعاونوا معها، أين الخلل لم أعرف، وهذا تأصل في ذلك الوقت واستمر إلى الآن. أي الثلاث سنوات في تلك الفترة وهي فترة ما بين الوحدة والانفصال كانت من الهشاشة بحيث إنها فعلاً تحتاج لقوة سياسية ما يجب أن تأخذ بزمام الأمر، وظهرت هذه القوة التي أنا معها، هي قوة علمانية.. الخ. لكن في النهاية هذه القوة من ذلك الحين تأصل ما وصلنا إليه الآن، مثلاً: نعود للحديث عن الفئة المثقفة، دعينا نتوقف عند شخصيات الرواية لنرى أن أستاذ المدرسة ضائع، الشيوعي ذهب إلى موسكو ليدرس هناك، وإلى الآن ولا نريد أن نتحدث كما قال أدونيس (عندما تمطر في باريس تفتح الشماسي في دمشق) القومي السوري انكفأ ولم تعد له فاعلية إطلاقاً تحول إلى متفرج على الأحداث فقط.
إشكالية الرقابة
< انطلاقاً من إشكالية المثقف والسلطة يمكن أن تتجلى السلطة للمثقف من خلال الرقابة، إلى أي مدى تكون تحت سلطة الرقابة أثناء الكتابة؟
<< بصراحة لابد من ذلك ولو أنني لم أعان من هذا القبيل حتى الآن، ربما لأنني لم أتخط خطاً من الخطوط الثلاثة المعروفة، ليس بدافع الرقابة، ولكن لم أجد ضرورة لذلك.
< هل هذا يعني أن ضميرك حاضر كرقيب على ما تنتج؟ وما مدى صدقك مع هذا الضمير؟
<< بالتأكيد.. طالما أؤمن بتأثير الكلمة لابد أن أعرف إلى أين مؤداها، وبالتالي يجب أن تكون هذه الكلمة في محلها تماماً أو يجب ألا تكون في موقع يؤثر تأثيراً سلبياً أو مبتذلاً أنا أحاول الابتعاد عن الابتذال. أنا أجد أن المغالاة أو التقعير فيما يخص الموقف السياسي للقارئ أو لتوسيع قاعدة القراءة غير ضروري وأتحاشاه تماماً، لكل شخصية وعيها الذي يبرز في سياق العمل الأدبي وهو موفقها.
< في سياق حديثنا حول الحالة المعرفية التي تحمّلها لمقالاتك -مع أن المقال حالة تكثيفية- لكن نرى فيه فكرة أو معلومة مغايرة لما تتناوله في الأدب سواء القصة أو الرواية وهنا أسألك هل ينفصل مقال مفيد عن كتابته الإبداعية؟
<< أنا أطمح أن يكون هناك صحافة معرفية، في سياق المقال النقدي الذي يتناول عملاً أدبياً ما إمكانية إدراج أمر ما. التوجه نحو المقال المعرفي قليل جداً وذلك لطبيعة المقال والمادة المتناولة، هناك مقالات معينة مثلاً إن كان في الجانب السياسي أو في الجانب الفكري لابد أن تتضمن جوهراً معرفياً.
< ما قصدته أننا نقرأ في مقالاتك حساً فلسفياً الأمر الذي يفرض تساؤلاً أنه مع تعدد وسائل الاتصال هل يوجد قارئ يرقى لمستوى الفكرة التي تطرحها في مقالاتك أم أنك تتوجه لقارئ محدد، أو لنخبة من القراء؟
<< هذا مهم جداً أنا عندما أكتب مقالاً فلكي يقرأه أكبر وأوسع مساحة من القراء، وهنا يفترض أن أتجه إلى منحى التبسيط في طرح الفكرة لكن قد يفرض علي الموضوع هذا النزوع الفلسفي الذي تتكلمين عنه، أو النزوع المعرفي. مثلاً مقالة منشورة في جريدة العلم العراقية حول النهضة العربية بالتأكيد لم يقرأ هذا المقال سوى المهتم، هذا أكيد. بالمقابل نشرت مقالاً عن إذاعات الـ fm فنون الكلمة المسموعة هذا المقال قد يقرأه عدد أكبر وشرائح متنوعة أكثر لأنه مقال صحفي أكثر مما هو مقال معرفي.
حضور المرأة
< الأنثى في نتاجك الأدبي تشابهت مع الواقع. ماذا عن الأنثى الحلم؟
<< أنا لا أقبل امرأة بدون تفاحة
< هذا يعني أن الغواية حاضرة؟
<< لا ليست كغواية حواء لآدم، ويجب أن ننتبه أن الغواية الأولى نتج عنها حالة معرفية، وهذا ماقصدته أن المرأة هي قرار عاطفي ومعرفي، لذلك لابد أن تنتج حالة معرفية وبالتالي هي ملهمة، وكما تعنينا المرأة في الحياة أيضاً هي لا تختلف في الأدب عن الحياة.
< ولماذا لم تتجسد المرأة لغاية الآن في حياتك الحسية؟
<< قد أكون أنتظر التفاحة.
< هل يمكننا القول إن الخيبات السابقة سبباً في تأخر تحقيق هذا الحلم؟
<< أنا لا أجده حلماً، ولا أتكلم عنه كحلم.
< لكن انتظارك للتفاحة بحد ذاته حلم؟
<< أنا لا أنتظر استثناء
< أكيد لأنك ربطته بالأنثى التي تدرك مسألة الغواية.
<< ليس هناك أنثى بلا تفاحة، التفاحة عندي رمز، حتى عندما أُغوي آدم أُغوي بالمعرفة، الأنثى كانت طريقاً لمعرفة ذاته وهو عرف ذاته عندما عاشر الأنثى، فالتفاحة هي المعرفة، معرفة تبدأ بمعرفة الذات، والأنثى الحلم في ذهني ذاكرة وعقل، لذلك لا تنتفي هذه الأنثى.
< وبعد هذه التجربة الحياتية والأدبية؟ هل تنتظر المرأة المعرفة أم المرأة الأنثى بالمطلق؟
<< الأنثى لا تختلف، وليس هناك تناقض، الأنثى عندي ليست هي المواصفات الكاملة والجميلة جداً، ثمة أنوثة أجمل بكثير من ذلك وأكثر تأثيراً وتخلق فضاء أوسع وأرحب وتداني الروح أنا هذه هي التي أتكلم عنها وهي ليست مستحيلة، هذه المرأة قد لا أكون وجدت طريقي إليها. هناك مقولة جميلة تقول: “عندما نتحرى عن الحب لن نجده أبداً” ويبدو أنَّ تحرينا عن الحب قتل في دواخلنا فكرة أن نجد حباً حقيقياً.
مايلوح في الأفق
< هل أنت راض عما أنجزته من مشروعك الأدبي؟
<< كل خطوة أخطوها أو أكتب شيئاً جديداً أعود إلى تقييمها، أنا أحن إلى مجموعتي الأولى التي تمثل خيباتي، فيها روحي فيها شيء من تجربتي الذاتية، من الناس الذين عاشرتهم وتعرفت عليهم بداية تفتحي مثلاً قصة “سحر الشجرة الغامضة” ألعب فيها على الشعور الجمعي.
< إلى أين تسير بمشروعك الأدبي؟ وما الجديد الذي تعمل عليه؟
<< أنا لا أريد أن أتحدث عن الخطوات القادمة، طالما أنني قادر على الكتابة سأبقى أكتب، لن أكتب عن الآن إطلاقاً خاصة فيما يخص الأزمة، وحتى فيما يخص خيباتي وتجاربي الشخصية، وليكن، إذا أنجزت شيئاً ما. لا أعرف ماذا سأكتب فيما هو مقبل ولكن في ذهني رواية تدور أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر اخترت هذا الزمن لخصوصية الشخصية التي يمكن أن يقوم عليها الحدث، أو أن تقوم بالحدث.
حاورته : سلوى عباس