من بيروت.. “كاوا” والأربعين حرامي!
طلال مرتضى
“هيلا يا واسع.. هيلا هيلا هيلا.. مركبك راجع.. هيلا.. هيلا هيلا”.. لن تمرّ دون أن تتوقف، أعرف ذلك، وإن غافلك المسير، سوف يخرج لسانك عن طوره صادحاً: “مركبك راجع.. هيلا.. هيلا هيلا”.. اقتطعوا جزءاً كبيراً من “كورنيش المنارة”، الواجهة البحرية لبيروت، امتداداً “لكورنيش الروشة حيث ما يسمى بصخرة الانتحار”.. بدأت دائرتهم تتسع، علا صداحهم، “هيلا.. يا واسع”.. هو الفضول، لا بل الحشرية، ماذا يحصل هنا، ومن هؤلاء المتجمهرون دون سابق موعد، السر في النواة، نعم السر في قلب الدائرة، تجاوزت بعضهم نحو الداخل، “هيلا يا واسع.. هيلا هيلا هيلا”.. “البزق” كان قطعة منه، كطفل رضيع سكن حجر أمه، يكاد يقول كلاماً نألفه جميعاً مع كل لمسة وتر: “مركبك راجع”.. قرأت الوجوه، واسترقت أذني بعضاً من كلام المتجمهرين، تلك السمرة لا يحملها ألا أبناء الفرات وحوران، وذلك الشاب الذي فتح يديه للهواء منصهراً مع اللحن في رقصة شعبية يعرفها الجميع، هو ابن حلب الشهباء، “يا موو..عليك يا خاي”.. وهؤلاء الفتية لا تغادرهم نباهة المنطقة الوسطى من سورية، “الله وملائكة حمص تحرسك”، قالها لصاحبه الذي شاش صدحاً مع العازف النبي.. وذاك الغارق في نشوة الكلام، “عيد ريسي عيد يرحم أمك”، ويومئ بيده للتكرار، ساحلي الملاذ، وذلك الوادع خجلاً عند أطراف الدائرة التي تتسع، يتحسّس ذقنه، يعيد شيئاً من حساباته، يستذكر ساحة الأمويين، السبع بحرات، عاد إلى الوراء قليلاً، أنى هذا الكورنيش من أتوستراد المزة، وهو يُفرش بالعلم العربي السوري ذات احتفال.. تلك الدائرة هي سورية الصغرى في بيروت، “الأم بتلم”، كان هذا قبل صيفين بالتحديد.. ذات أمسية بيروتية، كان العازف ذاته يرافق الشاعر عزفاً، وحين أنهى الشاعر قصيدته مغادراً المنبر، طلب العازف من الجمهور أن يستمعوا له، وحسب زعمه: هذه لسوريتي المباحة، وعزف.. أغوتني الفكرة، ويشهد عليّ كفاي اللذان صفقا بحرارة، قلت لمن يرافقني، لعلك تلتقط لي مع العازف صورة تذكارية، نهرني: “سيبك منه هذا من الـ..، امشي.. امشي”.
تكررت اللقاءات بحكم متابعتي للحراك الثقافي في لبنان، وتوالت إهداءات العازف الشاب ألحانه لسوريته.. على هامش معرض تشكيلي كبير في قصر الأونيسكو، جلس الرجل في زاوية بعيدة يعزف لحناً فيروزياً ناعساً: “أنا عندي حنين.. ما بعرف لمين”، عزلني تماماً، حجب الرؤية عني، تركت اللوحة، واتجهت نحوه، وقف في وجهي نصف وقوف، في حين بقيت بعض أصابعه تداعب وتراً، يتمتم بتلكؤ: “.. ما بعرف لمين”.. قلت: أنا. قاطعني: أعرفك أنت تبع الحرامية. قلت: “الله يسامحك أنا هيك، بشرفك وجهي وجه حرامية”؟!.
تكوّر الخجل في خديه احمراراً: أنا آسف يا أستاذ، خانني التعبير، أنت الذي تكتب في الجريدة عن هؤلاء المنتهزين، أعرفك جيداً. قلت: لكنك تصفق لهم، هل تعتقد أن ألحانك ستشفع لك عند سوريتك؟. وضع آلة “البزق” جانباً وكأنه يتحضر لمعركة، قائلاً: “اسمع يا أستاذ، وإذا حبيت سجل كمان، أنا معارض صح، أنا معارض لكل اللي عم تكتب عنهم هون وبسورية، ما حدا بريء، معارض لكل الفاسدين المحميين بكراسيهم، للي ألغى مادة التربية العسكرية من المنهاج ووضع بدلاً عنها تدبير منزلي، سجل عشان الله، والله الكل رح يتحاسب، اللي قطف زر ياسمين بقصد الأذية رح تنقطع أيدو.. أي أنا معارض حتى “لكاوا” بذاته اللي قدامك إذا بيزعل سوري، ليك بدك تحبسني.. أحبسني، ما عادت فارقة”.
– أنا صحافي يا “كاوا”.
صمت لبرهة، أعاد “البزق” إلى حجره، شاغل أوتاره بأصابعه النبية، عزف لحناً لا يخص المناسبة بالمطلق، شاغل به الحضور المتعدد الجنسيات، توقف كلٌ مكانه، ذاك أنزل “سيدارة الجوكي” من فوق رأسه احتراماً، وهذا وقف مسبلاً يديه إلى ردفيه، وذاك وتلك، كلّ على هواه، لكن لسان حالهم ردّد معنا: “سورية يا حبيبتي، أعدت لي كرامتي، أعدت لي هويتي”.
الإهداء إلى كاردو السوري..