هل الثقافة مجرد ورقة
جلال نديم صالح
على غير العادة، لم أشعر هذه المرة بطول الطريق المزدحم بين منطقتي الميدان والبرامكة، كنت عائداً من أحد النشاطات، جلست حينها بجانب سائق الميكروباص. كان رجلاً قد تجاوز الخمسين قصير القامة شديد السمرة، تركت سنوات التعب على وجهه غضوناً عميقة كل منها يحكي قصة بؤس ومعاناة. بادر بالحديث ولم يسألني من أنا وما عملي. حرضه على ذلك مرور عدة سيارات تحمل مساعدات للشعب السوري، قال حينها حرام ما حصل لهذا البلد “بلد الخطي” بلهجته العامية، هذا البلد الذي كان يستقبل الجميع وفتح أبوابه للأشقاء والغرباء وعاملهم كالأهل. حدثني عن طيش بعض الشباب الذين انجروا ليشاركوا في تدمير بلدهم، وعن دور القوى الاستعمارية وإسرائيل في محاولة تفتيت سورية، وعن الفاسدين الذين استغلوا الوطن عندما كانوا يشغلون المناصب، وعندما وقع أداروا ظهورهم له. حدثني بحنين عن سورية عندما كانت مضرب مثل في الأمن والأمان، وأنا أستمع لحديث هذا الإنسان البسيط والوطني بكل معنى الكلمة وبما يحمله من وعي وثقافة وعرفان لبلده، رغم أن الظروف ربما لم تسمح له بارتياد المدارس والجامعات. تساءلت كثيراً مادام في بلدنا مثل هذا النموذج النبيل، رغم بساطته، لماذا وصلنا إلى هنا؟ وبالطبع لم أستطع إلا أن أقارن بينه وبين كثيرين ممن يصنفون بالمثقفين، والذين كانوا أكثر من نالوا المكاسب على أرض الوطن، وبعضهم شغلوا مناصب مهمة جيروها لمصالحهم، وفي لحظة وجهوا طعنات أقلامهم لقلب الوطن. أيقنت حينها حقيقة أن الثقافة وعي وانتماء، وليست مجرد شهادة تزين الجدار وتخفي خلفها حقيقة بعض من يحملونها.
ندمت كثيراً بعد نزولي من الميكرو لأنني لم أطلب رقم هاتف ذلك الإنسان النبيل، لكنني على يقين أن المصادفة ستجمعني ثانية به وبالكثيرين من أمثاله ممن لم تتشوه نفوسهم بالجشع. هؤلاء هم من سيبنون الوطن وينشرون الثقافة الحقيقية ثقافة المحبة مرة أخرى لتكون عنواناً لوطن المحبة.