الأغنية في زمن الحرب
يسير الفن ومنذ بدء البشرية مع الإنسان جنباً إلى جنب وفي السراء والضراء معاً، فإذا عاش الإنسان في سلام ارتقى الفن ليحلق به إلى أقصى فضاءات الجمال وإن وقع في حرائق الحروب نهض الفن بالإنسان متلمساً له طريق نجاة، وكان الغناء صوت الفن ومازال دعوة مفتوحة للحياة ورسالة تخفّف من أوجاع الزمان.
في زمن الحرب لم يسكت عبد الحليم عن الغناء ولا أم كلثوم عن الشدو ولا فيروز ووديع الصافي عن بث الأمل، فالأغنية تبعث الحياة، وتعيد الحلم المفقود وتبقي الوطن على قيد الحياة. عندما اندلعت الحرب اللبنانية في أواسط سبعينات القرن المنصرم تصدت الأغنية للرصاص وظهرت أصواتاً جديدة أبدعت في هجاء الحرب وأعطت الإنسان دفعاً للتمسك بالحياة فكانت عائلة البندلي وظهر عازار حبيب وتألق ملحم بركات وغيرهم كثر من الفنانين الذين لم تلوِ لهم الحرب ذراعاً بل تمردوا على القتل والخراب والفشل السياسي وأعطوا صورة جميلة للبنان استطاعت في أوقات كثيرة أن تطغى على صور الدم والموت.
كذلك الأمر، وإلى حد ما، في العراق فنرى كاظم الساهر يخرج من نيران الحرب على العراق صوتاً مميزاً وفناناً راقياً لون وجه العراق وأنشأ حدائق معلقة للموسيقى أفرحت العرب من المحيط إلى الخليج رغم ضباب الحزن الكثيف.
ولكن أين نحن من ذلك في سورية وقد التهمت الحرب أربع سنوات طوال من عمر السوريين؟
بشكل عام، لم تكن الأغنية السورية بالمستوى المطلوب على الأقل حتى الآن فالأغاني التي تحدثت عن الحرب قليلة بل نادرة والأصوات التي برزت خلال الحرب وغنت عنها وضدها بشكل أو بآخر تعد على أصابع اليد الواحدة. أغانٍ وطنية ظهرت وانتشرت مع بداية الأزمة التي ألمت بسورية منها الجيد ومنها المقبول ومنها الرديء. بعضها افتقر للصوت وآخر للكلمة وآخر للّحن، في حين أساء آخرون للوطن أكثر مما أفادوه. وللأغنية الوطنية دور كبير في إعطاء الجمهور معنويات عالية، وبعضها نجح وانتشر لأنها تحدثت بلسان السوريين ولامست أحاسيسهم ومشاعرهم، ولكن ما أريد ذكره في هذا الخصوص هو تجربة متواضعة أطلقها الشاعر د. إياد قحوش من خلال كتابته قصائد شعرية توقظ جوع الإنسان للقيم الإنسانية الكبرى بلغة سهلة وعميقة جذبت إليها الموسيقيين والملحنين ولفتت انتباه الأصوات الفنية المثقفة في سورية فقدمت لنا أغاني جميلة دخلت بيوت آلاف السوريين وغير السوريين عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ففي أغنية “اشتقنا للسلام” التي غنتها الفنانة السورية الشابة ميس حرب صاحبة الصوت الراقي والإحساس المرهف يقول د. قحوش: (برفع إيديّي/ وبينزل الشتي/ بينزل عليّي/ وبيطير الحمام.. وبصلّي ياالله/ يالله يالله/ اشتقنا للسلام). وفي عمل آخر قدمه للفنانين الشابين صوفيا الحصني وملهم برغل في أغنية اسمها “ياليلة الميلاد” تنطلق الكلمات وكأنها صوت كل سوري، فقد بدأت الفكرة من الشعور بأهمية دور الفن في طرح ومعالجة قضايا ومشكلات المجتمع محاولاً فيها التعبير عن صوت الأطفال في العيد، وأن يصل بهذا الصوت إلى العالم: (بهالعيد منصلّي وخلّي الدني تسمع/ إلا للإله الشام مابتركع/ للحب منصلّي/ للخير منصلّي/ حتى الفرح يرجع.. ويرجعو البعاد.. ياليلة الميلاد.. ياليلة الميلاد).
ويلتقي الشاعر قحوش مع صديقه الفنان ميشيل أيوب في عدة أعمال خرج منها للضوء عملان هما “صوت الشتي” و”قزاز السما” فيقول في “صوت الشتي” وهي من تلحين ميشيل أيوب وبصوته: “سجره كافره” (مطرح مَ جدّي مات/ بيّي زرع حَوره/ مبارح قطعها بوعنتر بغداد/ حسّيت بدّي موت/ يمكن عملها بوعنتر تابوت/ يابلاد.. صبّحتك بصوت الشتي يابلاد/ والعمر مابينعاد).
وفي أغنية أخرى وهي أيضاً بصوت ملحنها الفنان ميشيل أيوب يقول د. قحوش: (بس تشوف تياب السودا ع حبال الغسيل/ بس تشوف قبور البيضا بالدرب الطويل/ إي رح تعرف إنتا وين.. من حزن البيوت/ من تقل السكوت/ ياقزاز السما لاتتكسر.. لاتتكسّر ع الشام وبيروت/ وجبال الجليل/ مابتعرف هالأرض مستحيل تموت/ هالأرض.. مابتعرف مستحيل).
قد تنجح الأغنية في زمن الحروب في لمّ الشمل في بلاد ممزقة وبث الأمل في قلوب يائسة وفتح الطريق للتأمل والأمل بالخلاص، وهذا ما حاول فعله الشاعر إياد قحوش عبر كلماته الجميلة والممتلئة شعراً وشعوراً، ونحن وبعيداً عن أصوات الحروب ننتظر من الشعراء والأدباء وكذلك من الموسيقيين والملحنين والمطربين أن ينهضوا بنا من هذا السبات القاتل وأن يحركوا بحيرة الإبداع الراكدة فنحن في أمّس الحاجة للجمال في زمن القبح، ونعتقد أنه من الضرورة أن يستمر الغناء في زمن الحرب وأن تضيء المهرجانات الغنائية مساراتها وترفع الستار عن الأصوات السورية الرائعة.
جمان بركات