ثقافة

“السرفيس” وثقافة “الدفش وتدبير الراس”

للأسف اختزلت الظروف طموحات الشباب الذين لم يعد لديهم متسعا للتفكير جلياً بفرصة العمل، أو تحصيل علمي أو حتى الاغتراب لإحدى بلدان الآفاق، ولم تعد الفتاة تفكر بالملابس جميلة أو بالزواج من الحبيب المنتظر، فأحلام أغلبية السوريين اليوم أصبحت أقرب للتفاصيل المعيشية القاسية، وبالتالي كبرت الطموحات كثيراً وأصبحت تتجاوز حدود السماء والحاجة أصبحت ماسة “لخرزة زرقاء”، في وقت أخذ المواطن يشط عن واقعه ولم تعد قدماه على أرض صلبة فقد “كبر رأسه” كثيراَ لدرجة أنه أصبح يحلم – حتى في صحوه- بمقعد في “سرفيس”!
إنها يوميات الحافلات التي تحوّل سائقها بين ليلة وضحاها إلى “صاحب نفوذ” يبتغي الجميع رضاه ويتسابقون لنيل وده. كيف لا، وهو صاحب الحافلة الأكثر جماهيرية في البلاد فمن سواها يرسم البسمة على الوجوه عند رؤيتها تطل كحمامة بيضاء على الطريق فتجذب وراءها منتظريها ومعجبيها، وتعبث بهم على قدر ما تشاء وقد اعتاد عشاق تلك الحافلة أن يدعوها “السرفيس” أو “الميكرو” لا فرق فالمهم أن يحظى الواحد منهم بمقعد في داخلها.
نعم أصبح “السرفيس” من أهم أمنيات المواطن السوري، وغدا سقف طموحه الوصول إلى مقعد فيه. فكم يعتبر نفسه محظوظاً عندما “يتوفق بسرفيس” بعد نصف ساعة انتظار فقط! عدا عن حصول السرفيس بكل امتياز على لقب بطل أحاديث المجتمع السوري وفارس أيامهم بلا منازع – لاسيما أن امتلاك سيارة خاصة أصبح من المستحيلات– وأصبح مشهد تدافع الناس نحو “سالب العقول” مشهداً لايشتاق المواطن له فهو يتكرر أمامه عدة مرات خلال اليوم الواحد، وعلى الرغم من عبارة “لا تلحقني مخطوبة” التي تذيل معظم “سرافيسنا” إلا أن الساعي وراء حلمه يتجاهلها ولا يكترث ويستمر باللحاق بمحبوبته.
ومع تعاظم أهمية “السرفيس” في أيامنا كان من الطبيعي ولادة ثقافة مرادفة له تتمثل “بالدفش” و”الطحش” فهناك معارك طاحنة تدور رحاها على أبوابه أملاً في تحقيق فتح عظيم والولوج إلى داخل مملكة الأحلام، لتبدأ عندها ثقافة أخرى هي “التلطيش” أو “التطفيش” ناهيك عن أن أكثر عروض الزواج وعهود الحب والغرام تقدم على شبابيك وأبواب تلك المملكة. ولعل اللافت للنظر انتشار حالات السلب والسرقة واستغلال تركيز اهتمام الناس على تحقيق حلمهم المنشود لتتم سرقة نقودهم وأجهزتهم الخليوية، ولكن علينا الاعتراف أن تلك الأمور الطارئة يطبب من جراحها الأغاني “الراقية جداَ” التي تنطلق وتملأ أرجاء “السرفيس” حتى يخيل للمرء أنه أخطأ المكان، وبدون قصد يتواجد في أكبر المهرجانات الاستعراضية وأكثرها صخباً، وهذه الرحلة التي لا يحظى بها إلا كل محظوظ، هي رحلة حارقة للدهون والأعصاب، وللأخضر واليابس أيضاً، ففيها الداخل مفقود والخارج مولود، مع احتمالية كبيرة تعتمد على “سعد يومك” أن تفوز بوظيفة الجابي وعندها تصبح الحسابات النقدية هي مهمتك الأكبر، ولعل العبارات “الحكيمة للغاية” المتوزعة داخل السرفيس هي الوحيدة القادرة أن تأخذك بحكمتها تلك بعيداً عن الجمع والطرح، فكيف من الممكن مهما كنت مهموماً أن تتجاهل عبارة “حاكيني بعيونك” فترد عليها  بضحكة عفوية  تلجم صوتها – مضطراً- كي لا يظن شركاؤك في الرحلة أن الجنون قد أصابك ولكن دون أن تنسى أن “شر البلية ما يضحك”.
لا يمكن مع كل هذا ألا يتبادر إلى ذهنك تساؤلاً مشروعاً وهو ماذا حل بثقافة وسائل المواصلات العامة، وأين ذهبت تلك الإرشادات الجميلة التي تربينا عليها والتي تقول “اجلس المرأة والطفل والكهل” والأخرى التي تقول “ساعد السائق والمراقب فهم أخوتك” هل أصبحت رمزاً لزمن جميل لم نعد نحمل حتى ملامحه! أم أن هكذا تفاصيل يعتبرها البعض هامشية أمام لهاث المواطن اليومي وزحام الحياة وثقلها.
لوردا فوزي