قراءة في مختارات شعرية للشاعرة المبدعة الراحلة “أمل جراح”
شعرُ “أمل جراح” يتمايز بأنسنةٍ لا تقاربها شاعرة في “خلق الصور الشعريّة” إلاّ الشاعرة الخلاقة “سنية الصالح” وهما نجمتان أضاءتا عماء فضائنا الشعري، واستشهدتا في ساحة الشّعر؟! قامتان شعريتان، قد جافاهما النّقاد بعض الشيء؟ ولم يأخذا حقهما بالدراسة، وتسليط الضوء على إنتاجهما الشعري؟!
وبقدرٍ واسعٍ من البراءة والحياد الحياتي الذين انطلقت بين ضفتيهما الشاعرة الراحلة “أمل جراح” ونُضيف وبكامل اليقين الإبداعي الشاعرة “سنيّة الصّالح” شاعرتان يشار إليهما لا بالبنان، وإنما بالروح والمحبة، شاعرتنا “جراح” المعنية في هذه القراءة العُجالة وشّبهُ المُتأنيّة، حيث انطلقت في التعبير عن الحب، وارتعاشة العواطف وانهمال المُتخيّل بهسيس الواقع المعاش، في لغةٍ شفوفةٍ شافة، وصُورٍ تكاد تكون غير “مطروقة” من شاعرةٍ قبلها، جابتْ “برومانسيتها” الحزينة، بقاع النفس التّواقةِ إلى التفرّدِ والانعتاق من “عنكبية” الرجل / الذكر، وقسوة الحالة “البطريركية” القامعة لهواجس وشؤون الأنثى/ المرأة.
“أمل جراح” شاعرةٌ مُلفِتةُ بصورها الشعريّة الخارجة عن “القانون” حيناً وأحياناً عن مجتمع يعتبر الأنثى شًؤماً عليه تجلبُ ألوان الخزي والعار؟!
تقول من مجموعة / صاح عندليب في غابة / 1978/ دمشق تدخل الجسد ولا تنطفئ/ لها حلاوة الفم عندما يعشق/ ونداوة النّبع عندما يتدفق/ انتشيتُ بها نشوة المحارب بالظفر/ وأرى دمشق تُنادي من قاسيون/ ص 25
هذه المنمنمات الأكثر حرارةً، والأشد اختناقاً بالوطن، روعتها أنَّها تناجي “دمشق” التي فيها يبتدئ العالم، وينتهي صاهلاً في دروب الحضارات، آخذاً غفوة التعبان تحت أفيائها، وهادياً التائهين والضالين عن “صحوة الحياة” في مناخات وجودها الذي يُساوي حياتها؟!
شاعرةٌ تكتب مذكّراتها اليوميّة، توقدُ بين حناياها، حطب التّألّق والخلق وشهوة الإبداع واقعيّةٌ إلى حدِّ التماهي بالأشياء– قطط، عصافير، شفاه، بنفسج، أزقة، شوارع…الخ، وتدخل في كل الأشياء اليومية / تسأل عنك وهي نائمة، وليست نائمة/ صبراً سيأتي يمسحك بيده الكبيرة / فتنامين إلى الأبد/ في دفْء راحتيه/ ص 19
وكم كانت تعتني بالأماكن والأحياء والعتبات المقدسة تقول: / من الغوطة والأموي وحي الميدان/ دمشق تصرخ حناجر الرجال والنسور والعقبان/ آن الأوان من بندقيّةٍ ملأى بالزهر وفوهةٍ يسكنها الحمام/ في تشرين بدأ الله خلقهُ؟! / ص 26
ومن مجموعة / صفصافة تكتب اسمها / 1986 تقول الشاعرة الحزينة “أمل جراح”
/ صباح الخير/ أيها الرجل الملوح بالملح والشمس/ هاهما ساعداك/ مشدودان كالوتد حول خصري/ تدعوني إلى الرّقص الغجري/ تحت شجرة الأفق/ وأنا العاشقةُ المبتلّةُ/ بريقك العذب/ ص 30
هذه دعوةٌ إلى الوليمة، إلى حالةٍ من حالات التّجلي والإشْتجار، صورٌ توشك أن تتلقاها بِانْشداهٍ عجائبي تلك التي ملأت وجودك ارتباكاً، واغتراباً، وقبلاً تتراشق ببعض عِناقٍ ما أرادت فِكاكاً منك يا “حبيبي” هذا التكثيف في معجن الرُّؤيا، يزداد اتساعاً كلما ضاقت الرُّؤية، وانكشف السّرُّ المباحُ تقول:
/ مامن مرة/ مررت تحت شُباك بيتي/ حتى جاءت العصافير/ تناديني إليك/ ص 34
لا أعتقد أنَّ غيرها من الشاعرات الملوّعات بالحزن، والمفجوعات بالغربة والحنين، أتت بهذه “الصّورة الأخاذة” وكم هي بسيطة المعنى؟! ومضاتٌ شهيّةٌ، كصباح مُلثّمٍ بالندى،
تلك التي تقول: / كان/ مابيننا لون الندى/ قطرة ماء فوق ورقة خضراء/ نجمةٌ في الأفق/ موجةٌ تركض في البرِّيّةِ/ ص 58
تصوّر يا عزيزي القارئ، موجة بحر تركض في البراري، يالهذا المخيالُ المجَّرحُ في تخييلٍ تراكمي، وانزياحٍ في رعشة افتراقٍ عطشي، وتوهانٍ في فيافي يغتال جهاتها السّرابُ أنّى توجّهت!
شاعرتنا “جرّاح” التي أسّست نظريّة “الحزن والهُيام” في شِعرنا السُّوري، والكوني،
تقول: / كبير حزني/ دمعة جارحة في الحلق/ خنجر في الخاصرة/ شفرة تحت لساني/ ومديةٌ تقطع/ من الوريد إلى الوريد/ ص 63
ومن مجموعة / امرأة من شمعٍ وشمس وقمر/ 1992 تقول الشاعرة أمل: / إنها مائدة التراتيل/ فانْشد لي يا سيدي/ أناشيد الغابات الاستوائية/ فالقمر/ بدون أناشيدك كهف الليل/ أنا البنفسجةً الطّريّة/ أجلس على مائدة الصّباح/ في الشرفةِ البحريّةِ/ أتأمل وجهكَ/ وأحبك/ ص 68
لوحة فسيفسائية، كأنها تحكي سوالف العشق، هاهي على جدارٍ مُسوّر بالحكايا، ومُؤطّرٍ بالأساطير في “أفاميا” السّورية على رأس هضبةٍ، تُوشي للزمان غبار المعارك وضحكة الحضارة، من شرفة المعابد، والهياكل، والتيجان المتناثرة على أطرافها/ ودائماً أنت المسافر، وأنا التي تنتظر، خذني معك ولو مرّة مثل عروسٍ، أنام على زندك في القطار/ ص 69
لا مكان للزمان في هدهدات أراجيح الشاعرة، بجبالٍ واهيةٍ بين السماء والأرض، وانتصرت السماء تالياً وأخذت “شاعرتنا” ضيفةً أبديّةً عندها، أسندت الملائكة جسدها حيث لا “أمل” وغابت عن الأنظار، أوقفوا قرع الأجراس، تلك النّدية كعشب البراري؟!
الشاعرة “سيّدة الحزن” المتواري بين طيّات همومها، هذه رفيقة الشاعرة “سنيّة الصّالح” يتلاقيان في دمعةٍ حارقةٍ، تستأذن الفراق من بين أهداب الحياة، ولكنهما، يلتقيان في قبرٍ واحدٍ وشاهدةٍ يتيمةٍ، تواسيهما القصائد، والأماسي الباردة؟!
هاهي براري الشعر، تتباين غرابةً، وشقيّةً، في مداها الرّماديّ، كظبيةٍ ضيّعت وليدها “توّاً” ولحسّتْهُ، ونظفته من عفونة الزنزانة، بعد قضاء الأشهر التّسعة من حكمه، دمْدمَ ربيعُ، واخضر الكون، فتح كوّةً وانْدفق كُتلةً من حياة؟!
“أمل جراح” بأشعارها التي تنتمي إلى عشيرة “الأحزان” وقبائل “الأوجاع” مُروّضةً هذا “الموت” الذي يُطاردها، في كل مطارح الدنيا تقول: / مثل نحيبٍ/ لا يكفّ عن البكاء/ وأنا في سطوة الريح/ سوى قطرة مطر/ تحلمُ بسنبلةِ قمحٍ/أو تنام/على جناح عصفور صغير/ص 113
وتقول: / أموت كلَّ يوم وأموت/ تعوّدت حتى بات يهرب مني/ ولا أهربُ منه/ كل المنارات خبتْ/ ص 115 حتى قبض عليها متلبسة بجريمةٍ وهي “حب الحياة”؟! ووقف القلب، وأراحته من مراسيم التحسس والعذاب، هذا العذاب الذي حيّر القلب، وحين خانته ابتهالات القصيدة؟!
قدرٌ كبيرٌ من البراءة والعفويّة، التي تتباهى في التعبير عن حبها له، لغةٌ وصور ومعانٍ، وبساطةٌ غير مسبوقة، تغوص في العمق إلى مُنتهاهُ، جالبة الأحلام والهواجس.
فضاء شعري بديع، مُعبراً مُفعماً بالشعر، مُعبأً بالشّفافية، وملامح البعد التّأملي، وهذه النصوص أبداً تنتمي إلى عائلة “الشعر الصّافي” وبامتياز بعيد عن التقسيمات/ نثر، نص، خاطره، قصيدة تفعيلية، قصيدة مُقفاة..و..و فأشعار شاعرتنا الأولى في “شعرنة القصيدة” مع الشاعرة “سنية الصالح” والمبدعون لا يموتون؟!
مختارات شعرية- أمل جراح- الهيئة العامة السورية للكتاب- الكتاب الشهري الرابع عشر– دار البعث
خضر عكاري