على قدر أهل العزم
في بداية الأزمة السورية عندما كانت البلاد والناس والطبيعة، وثقافة هذه البلاد وإرثها الفكري العريق وحضارتها الغنية بتنوعها، تتأرجح على حافة هاوية نوايا المستعمرون المتجددون، في العودة إلى ربوعها التي سلبت لبهم بكل ما فيها من بشر وتاريخ وأمكنة وشجر وطير وماء وفكر، كان من الطبيعي أن نعجب ونبارك أي نشاط فكري ثقافي فني تم إنجازه خلال الظروف القاسية التي نمر بها. بل كان لزاما أخلاقيا في المقام الأول أن نعمل على إعلاء القيمة المعنوية لهذه الأنشطة على حساب إعمال النقد العلمي والمدروس والذي يخوض في كل شاردة وواردة فيها.
خصوصا وأن العديد من الأشخاص المحسوبين على الحالة الثقافية السورية عموما (شعراء وكتاب وفنانين ومفكرين وإعلاميين) لم يضطلعوا للأسف بالدور الذي كان يجب عليهم أن يخوضوا فيه في مجتمع عاطفي وبسيط كالمجتمع السوري، يرى في أهل الفن والفكر والثقافة أناس أصحاب رأي سديد يوثق به، بل ما شاهدناه وسمعناه من بعضهم الذي اختار أن يقف على المنابر التي تهاجم وتمول الحرب على بلدهم، فاق بريائه ودجله وتلفيقه ما عملت تلك الدول الراعية والمصنعة للإرهاب على تسويقه بشتى وسائل الكذب والتدليس.
الحالة التي كان بعض مثقفينا وفنانينا ومفكرينا للأسف، جزء من مشهدها المقيت ،ليتكشف فيما بعد أنهم لم يكونوا إلا أول “الكروت”التي حرقها أسيادهم من المستعربين والمتأمركين في الجولة الأولى من الحرب التي حاولوا تجميل وجهها الذميم بها، حيث عمد هذا البعض إلى تشويه صورة سورية في تاريخها المجيد وحضارتها ورموزها الوطنية، داهسين في تضليلهم للناس الذين وثقوا بهم يوما، كل ما قدمه الوطن لهم ليكونوا من قلاعه في حربه على الإرهاب والتخلف والغوغائية، وليتضح فيما بعد أنهم ليسوا إلا طابورا خامسا، لا خير لهم في بلادهم إلا إن كان مرتبطا بمصلحة شخصية ضيقة.
لكن التاريخ يدوّن والسوريين يعرفون أن يميزوا تماما بين الحقيقة والدجل، يكفي أن نذكر أن بعضهم ذهب إلى العدو الصهيوني وتوسله ليعينه على تدمير وطنه!ومنهم من ارتمى في أحضان الميلشيات المسلحة من أكلة الأكباد وقاطعي الرؤوس وصَلّبة الأطفال، مفاخرا بصور يلتقطها بين أبو الدعداع الليبي وأبو الشمقمق الفرنسي وغيرهم من شذاذ الآفاق، كتأكيد لا يقبل الدحض لمعلميه من العربان أنه يستحق كل قرش يدفعوه له، ليتغنى بالديمقراطية المسخ التي راح ينشدها من أمريكا “لعنة البشرية” ومن إسرائيل “وباء البشرية” لأبناء اعرق الديمقراطيات في العالم، ومن أين؟من دويلات الشعارات الغارقة “الرأي والرأي الآخر” والفيافي القاحلة” لأن تعرف أكثر”! إذ كان من الطبيعي أن نرى نصف الكأس الممتلئ، ونتغاضى بطيب خاطر عن الأخطاء والكوارث أحيانا التي امتلأ بها النصف الأخر من الكأس، في العديد من النشاطات والفعاليات الثقافية والفنية والفكرية التي جاءت لتدفع الموت بثقافة الحياة.لكن بعد مرور أربعة أعوام من الحزن والصدمة والألم والخوف والفقد والخسارة،بعد أربعة أعوام من صمود حقيقة لا وصف يليق به حتى الأسطوري، وقف فيها جيش البلاد يحمي آخر معاقل العلمانية في المنطقة، جيش يستشهد قادته وضباطه وصف ضباطه وجنوده فوق كامل التراب السوري،بنفس المحبة ونبل العطاء، لتبقى الحياة بأناسها ودورتها الطبيعية مستمرة دون توقف أو إبطاء، الحياة بمناحيها المتعددة اجتماعية كانت أم إنسانية وفكرية وثقافية واقتصادية.صار من الواجب والضروري قول كلمة الحق بأي عمل فني وثقافي واقتصادي يُنجز، دون أدنى اعتبار للمقولة الشهيرة التي برر بها العديد من صناع الحالة الفنية والثقافية في سورية السوية المنخفضة لنتاجهم: “شكرا لنا لأننا عملنا بهذه الظروف الصعبة”!
هذا التبرير لم يعد مقبولا في مسارحنا ودور سينمانا، في صحافتنا وفي الكتب التي نصدرها، في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا،في رياضتنا التي تبدو وكأنها لم تكن موجودة قبلا، في حين أنها حققت أهم إنجازاتها والبلد يمر بظروف صعبة أيضا.
سورية بلد ليست حالة الحرب بالجديدة عليه، بل هو على موعد معها كل عقد تقريبا، فلدينا أراض محتلة وعدو خبيث يحصي حبات الرمل والحصى، يدون كل الولادات الجديدة ويفصل الذكور عن الإناث في تدوينه، عدو عينه على مائنا وسمائنا وأرضنا، لم يكف يوما عن التفكير بالاستيلاء عليها بل هو يجاهر بذلك ولا يخفيه في شعاره الشهير: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.
بالتأكيد هذه الهجمة المسعورة وغير المسبوقة ليست كالمصاعب التي مررنا بها شعبا وحكومة منذ التحرر من العدو العثماني، والإطاحة بالاستعمار الفرنسي مرورا بنكسة الـ67 وبانتصار تشرين المجيد وليس انتهاء بالإرهاب الذي ضرب البلد مطلع ثمانينيات القرن الماضي والذي عاد بحقد أشد وغل لا يبرد سعيره، لكن هذا لا يعني في حال من الأحوال أن نزيّف الحقائق ونزور الوقائع، مطلقين لقب شاعر على من يفاخر بأنه لا يعرف حتى القواعد اللغوية للغة التي يكتب بها،مصفقين لعرض مسرحي ينال مضمونه فيما ينال من الوطن، مسهبين في التطييب لفيلم سينمائي متواضع، مباركين لبعض المدراء وغيرهم من المسؤولين مشاريعهم وخططهم دون مناقشة جدواها.
في الحقيقة إن حالة النقد الصريح والنقاش الجاد في جرائدنا ووسائلنا الإعلامية المختلفة،حيال أي عمل فني أو ثقافي ينُجز في الزمن الصعب،هو من يعطي الحياة في زمن الحرب، صورة واضحة وحية وأكيدة تؤكد على واقعيتها ومصداقيتها، فلا ضير مقابل كل مقال أو مقابلة أو تقرير يعلو صوت التصفيق به على صوت الحقيقة، أو آخر موارب لا رأي واضح فيه،أن يقرأ الناس ويشاهدوا ويسمعوا أن ثمة حالة ديالكتيكية أو جدلية حقيقية تقدم أراء مختلفة عن السائد، تسأل وتناقش وتقدم رؤى وأفكار علمية وعملية للنهوض بالحالة الثقافية والفكرية والفنية والاقتصادية، أراء وأفكار هي بدورها عرضة للنقاش والسؤال والمتابعة بكل شفافية ومحبة وبعيدا عن الشخصانية كل البعد.
منذ مدة قريبة اجتمع وزير الإعلام “عمران الزعبي” بالعاملين في الحقل الإعلامي باختلاف أنواعه “مرئي ومسموع ومقروء” مستنهضا الهمم والطاقات ليقوم الإعلام بدوره الفاعل والحقيقي في خدمة الوطن والناس بعيدا عن أي مصالح شخصية،حيث أكد “الزعبي” أن من يريد أن يعمل بضمير فسيقدم له كامل الدعم، مستندا في موقفه على النقاط التي طرحها السيد الرئيس “بشار الأسد” في خطاب القسم حول ضرورة النهوض بالحالة الإعلامية، لتكون خير معين للحكومة في رصد مواطن الخلل ومحاولة كشفها قبل وقوعها.
تمام علي بركات