ثقافة

“عالم آخر يخصني” مجموعة قصصية سيدتها اللغة

ما أجمل أن تصلك في هذه الظروف مجموعة قصصية مطبوعة في مدينة حلب، تعطيك الأمل مجدداً بأن الحياة والإبداع لا يمكن أن يتوقفا طالما الإيمان بهما قوياً. وما أجمل أن تكون هذه المجموعة القصصية ممتعة بل ومميزة في كثير من الجوانب. ونتحدث هنا عن “عالم آخر يخصني” لكاتبتها غفران طحان، والصادرة عن دار نون عام 2014 وهي دار معروفة بتاريخها ومؤلفاتها.
العنوان يفترض أن هناك فضاء مختلفاً يحمل خصوصية ما، ثم وحين تقرأ ما بين دفتي المجموعة تكتشف تباعاً تفاصيل تلك العوالم والتي تشبه أحياناً تلك الخيالات التي تحدث حين إغماض العينين للتأمل، أما عناوين القصص فلم تحمل فرادة ما أو لم تسر على ذات خط التميز، نذكر منها (نبوءة جدتي ـ لم يعد للتفاح مكان ـ نبي الصمت…) وهذه النقطة ليست عيباً ولا ضعفاً، فكلنا نعرف مدى الجهد والإرهاق الذي يتحمله الكاتب في سبيل عنوان قد لا يصل إليه إلا بعد محاولات كثيرة، وفي الغالب لا يرضى عنه.
سنتوقف عند بعض القصص لنلقي عليها الضوء. مثلاً قصة “ولم تكن النهاية” المولودة من عيني الأرض السورية الباكيتين وقلبها المفطور، حيث تناولت فيها الكاتبة حياة يومية من أيام الحرب التي تبدأ فجراً مع طائرة تحوم وتنتهي مساء مع هدوء ليس سوى استراحة المحارب، وانعكاس الخارجي على الداخلي في كل الحركات والسكنات، في الطعام والاستحمام والنوم الذي لا يتحقق. وتتميز هذه القصة كما كل المجموعة بالبحث الدائم عن اللغة المجازية المتفردة التي تستبطن الأعماق وتلتقط من المحيط ما يؤلف صوتها الخاص.  تقول في وصف قطرات الماء (كانت تتدحرج لتتعانق شوقاً على وجهي، وتسقط معاً نحو نهايتها أو بدايتها).
وفي قصة “تلك التي” وصف لنهكتي الحلاوة والمرارة التي يتذوقها المبدع لحظة فوزه بالهالة المقدسة لإلهام الكتابة. فحين يصبح العالم كله وحي وفكرة وقلم وورقة، تتسارع الأنفاس ويسير القلب حافياً نحو موعده، ولكن يحصل أن لا يعثر العقل على فكرة إلا بعد أن يهدأ القلب. وهكذا تضيع  الفرصة الآن، لكن لابد من فرص أخرى قادمة، فنهوض الحلم والإشراق ليس عصياً على من امتهنه (وجاءت بخطوة فراشة، حطت بأناملها على روحي، وقالت هيأت لك) وعن لحظة الخيبة تقول (كنت أرقب رحيلها عني، وقد تعلقت عيناي بذياك النور، وبفلول النرجس المهزوم، وصدى الصمت المخاتل).
أيضاً قصة “سيدة الكلمات” يمكن التوقف عندها، إذ تصف تعلق كاتبة بمُلكها الأثير أي الكلمات، فحين تستيقظ من الغيبوبة وتولد من جديد في اليوم الثامن، تبحث في معجمها عن كلمات جديدة تستحق أن تشاركها ولادتها، وهي الملقبة مذ كانت طالبة جامعية بسيدة الكلمات، والمقروءة كتبها من قبل الكثيرين، لكنها ولطرافة الموقف تجد أنها على سجيتها تطلب من الممرضة دخول الحمام، فالحياة بحاجاتها الأساسية والفيزيولوجية قد تكون الأساس أحياناً، الحياة هي سيدة الكلمات.
إذاً اعتمدت القصص على المزاوجة بين الواقع والخيال ليشعر القارئ بأنه شاهد هذه الشخصيات ذات مرة أو أحس بهذا الشعور مرة ثانية، فهي بتنوعها تطرق أبواب ذاكرة البعض وتنادي بأصوات البعض الآخر وتحزن كما كثيرين وتستحضر الجدات والقرى والأمكنة والطرقات والبحر، وشيء من فيض مكونات الحواس. ولم ترضَ إلا بامتلاك لغتها السردية المتروكة لحبال الخيال الغني والذي بسرعة يلامس الذائقة المحبة لامتزاج السرد بالشعر، فالنفس الشعري حاضر وبقوة، وإن لاحظنا أنه يمكن الاستغناء عن بعض العبارات والإطالات.
سوزان الصعبي