“الدور” من القوالب الغنائية الصعبة ويأتي بعد القصيدة مباشرةً
“روحي وروحك” من أجمل أغنيات أم كلثوم التي تنتمي إلى قالب الدور ويمضي بانسيابية اللحن الطويل الهادئ الذي يتسرب مباشرة إلى أعماقنا ويترك أجمل أثر ،وكما ذكر الباحث وضاح رجب باشا في محاضرته الشهرية في (أبو رمانة) ضمن سلسلة محاضرات موسيقا الزمن الجميل،فإن النقاد الموسيقيين شبهوه بالموسيقا الكلاسيكية الأوروبية التي يبثّ فيها المؤلفون شيئاً من روحهم وأحلامهم ،نشأ واشتُهر في مصر ومرّ بمراحل تطور إلى أن وصل إلى شكله الأخير المركب والمتنقل بين المقامات.ورغم وجوده في مصر إلا أن المطرب صباح فخري غنى الكثير من الأدوار وأضاف إليها نكهة خاصة ميّزته عن غيره. بدأ الباحث محاضرته بتعريف الدور وهو قالب من القوالب الغنائية الصعبة ويأتي بعد القصيدة مباشرة،ظهر في أوائل القرن التاسع عشر نشأ واشتُهر في مصر كما اشتُهرت الموشحات في سورية ،ويتميز بكلماته البسيطة المصاغة من الزجل وينظمه المؤلف من معانٍ تتناول جمال اللقاء ولواعج الفراق والتغزل بالمحبوب والتشابيه، ويمضي وفق اللحن الطويل الذي يتجاوز عشرين دقيقة مبنياً على “المصمودي أو الوحدة الكبرى” ويتألف من المذهب ثم الأغصان أيّ الأدوار، ومن هنا جاءت تسميته بالدور ،من أشهرها الدور الذي لحنه وغناه محمد عبد الوهاب:
“أحب أشوفك كل يوم/يرتاح فؤادي والقلب داب/من البعاد”.
لحن واحد
وتابع الباحث حديثه عن مراحل تطور الدور إذ مرّ بأربع مراحل وفي كل مرحلة أضاف الملحنون إلى خصائصه أشياء جديدة ،وتعدّ نشأته هي المرحلة الأولى في عصر الخضراوي وكان آنذاك تقليدياً، ويتألف من مذهب وأربعة أغصان تؤدى بلحن واحد ووفق الوتيرة ذاتها، وكلماته موحدة ولايشترك المرددون مع المغني بالغناء -وكما ذكر الباحث- لاتوجد تسجيلات لهذه المرحلة القديمة التي تعود إلى 1850.
الإيقاع وتنقلاته
وفي المرحلة الثانية طُوّر الدور من خلال إضافات شيخ الملحنين محمد عبد الرحيم المسلوب ،فغدا يتألف من المذهب ويتكون من شطرين ويبدأ اللحن بنغمات من الشطر الأول ثم تتغير الجملة الموسيقية بالانتقالات إلى إيقاعات مختلفة من المقام ،وتتبعها الأغصان بلحن آخر مغاير،وهنا تظهر قدرة المغني بإظهار مساحة صوته بالتنقل بين المقام الأساسي وتفريعاته مثلاً يقوم الدور على مقام الرصد وتفعيلاته “السوزناك–الرهاوي..” ويمكن للملحن أن يجمع مقامين الرصد مع العجم أو الكرد مع التفريعات ،لذلك يعدّ نمطاً صعباً ويتطلب أداء مغنٍ متمكن .من أشهر الأدوار في مرحلة المسلوب “العفو يا سيد الملاح”.
الهنك والرنك
ووصل الدور إلى جملة تطوره مع دخول الملحن محمد عثمان عالمه ،وإن كان التزم بالإطار الذي رسمه الشيخ المسلوب إلا أنه أضفى عليه لوناً جديداً بدخول الآهات إلى القسم الثاني منه إضافة إلى الحوارية الغنائية بين المغني وجماعة المرددين ،وأطلق على هذه الصنعة الموسيقية “الهنك والرنك” وهو اصطلاح غنائي يتبعه الملحن ويتبادل المغني والمرددون الآهات، ويشترك الجمهور معهم وهنا خرج الدور عن رتمه البطيء الهادئ ويتم الانتقال للمقامات القريبة من المقام الأساسي ،ثم يعاد المقام الأساسي ،وهذه الانتقالات السلسة هي التي غيّرت من مسار الدور ،اشتهرت في هذه المرحلة الأدوار التي لحنها عثمان. “حظ الحياة/في البعد أنت ياما واحشني/عشنا وشفنا”
الخنة في الصوت
وبعد عثمان جاء تلميذه داود حسني الذي عمل على التنقل بين المقامات الموسيقية وتفريعاتها والإيقاعات المناسبة التي يختارها الملحن ،فيبدأ الدور بإيقاع وينتهي بإيقاع آخر دون تكرار الإيقاع، وهذا ما جعل الجملة الموسيقية صعبة ،مما تطلب وجود قامات غنائية فريدة فغنت أم كلثوم ستة أدوار له منها: البعد علمني السهر “روحي وروحك/في امتزاج في الحب قبل الوجود/قالوا الحياة فيها ابتهاج/والحب سعد السعود”
ثم لحن سيد درويش ومحمد عبد الوهاب إلى أن جاء زكريا أحمد في المرحلة الرابعة ووضع مقدمات موسيقية للدور مثل “حيرتني ليه”ووضع عبد الوهاب عدة أدوار على مقام الحجاز مثل دور “حبيب القلب”.
ومن جماليات الغناء في هذه المرحلة الخنة في الصوت فكان المغنون يغنون من الفم والأنف لتظهر الخنة واضحة. غنى الدور في هذه المرحلة عمالقة الغناء العربي ليلى مراد ومنير مراد وفتحية أحمد ومحمد خيري ،ومن سورية ماري جبران وصباح فخري الذي أضاف إلى الأدوار نكهة خاصة لاسيما في الدور الذي غنته قبله أم كلثوم وحقق شهرة وانتشاراً واسعاً وكان متكاملاً من حيث الجمل الموسيقية.
“إيمتى الهوى يجي سوا وارتاح/ولو في العمر يوم”
ثم انحسر غناء الدور نتيجة تطور القوالب الغنائية ودخولها السينما والإذاعة والتلفزيون.
مِلده شويكاني