ثقافة

الواقعية وأسئلة جديدة

أحمد علي هلال
يمكن لكاتب ما أن يقول عن قصته أنها واقعية، وعنده أن الواقعية تقوم على تصوير الواقع –كما هو- وبصدق لا تشوبه شائبة، ويمكن له أيضاً أن يجد ما يقنع به قارئيه من أنه كتب عن أحداث بعينها وأشخاص بعينهم، لتكتمل قصته بما يستقيم لها من «الوثوقية» فالمصداقية وهكذا، طبعاً لدواعي الصدق ليس بالمعنى الفني وإنما بالمعنى العام، هذا واقع الحال فيما يجري في بعض الأمسيات الأدبية، وعليه فإن مفهوم الواقعية الذي يتردد ما بين الكاتب ومتلقيه، هو مفهوم ملتبس وغائم، لا يقوم على إحراز المعنى الحقيقي للواقعية تلك التي تطيرت من المذاهب والمدارس الأدبية، واشتق لها الكثير من الاصطلاحات والأفكار والمفاهيم، لتصبح فيما بعد الواقعية ولذلك يأتي التواتر «واقعية الضفاف» أو «واقعية التماثل والاختلاف» وفيما يبدو أن ما تذهب إليه تلك الأمسيات من محاولة تصوير الواقعية على نحو مبسط يكاد يخّل بالدلالة والمعنى.
ولنا أن نتساءل بعيداً عن تعقيد المذاهب والمدارس والتيارات وسجالاتها المتواترة، فهل الواقعية هي نسخ الواقع كما هو لتصبح أكثر قرباً من المتلقي دونما أي رؤيا ما فيها، وهل الواقعية في هذا السياق هي الإخلاص للواقع على نحو يصبح النص الإبداعي فيه «قصة وسواها» صورة مكتفية عن الواقع، ولا تضيف له شيئاً لكأنها تدونه فحسب، لكن بالعودة إلى ما قرأناه لحنا مينة ونجيب محفوظ مثلاً وصدقي إسماعيل وهاني الراهب ومحمود تيمور ووليد إخلاصي وسواهم الكثير مما يقابل ذلك في الآداب العالمية، فهل الواقعية هي ذاتها من كتبها أولئك وغيرهم، أي تلك التي تقوم على محايثة الواقع وتمثل محكياته كلها دونما فحص أو انتباه لما يعنيه الواقع أولاً، وسواء أكان ذلك برؤية فلسفية-فكرية أو جمالية رؤيوية، وليس القصد هنا -بالطبع- إحراز تعريف نهائي يفض الانتهاك في تداول الواقعية على ذلك النحو المؤسي والأقرب إلى الرثاء منه إلى التوصيف، لكننا مع ذلك نظل في تساؤل طليق حقاً ماذا تعني الواقعية، إرثاً وتاريخاً وارتباطاً بما دونته الذاكرة الأدبية معظمها على الأرجح إذا أردنا فعلاً أن نضيف إلى الإبداع المتغير ثابت ما، ويصح في الإبداع أن يكون المتغير هو الثابت الوحيد.
فأن نقول بالواقعية هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تكون الكتابة نسخاً ولصقاً، فالكتابة بهذا المعنى هي إعادة بناء وإعمال نظر ليستوي القول بمفهوم أكثر رحابة هو التجاوز، تُرى من يحرز تلك العلامة، ومن يضيف إلى ذاته المبدعة قبل أن يضيف إلى الإبداع؟.
أسئلة كثيرة تدور دونما توقف وهي من تخلق جدلها في كل تناول إبداعي لمطلق نص يزعم أنه يكابد وأنه واقعي حد التماثل، ولا ينبغي في هذا المقام أن يكون مصطلح الواقعية أو مفهومها إن جاز التعبير، أشبه بالكائن ذي الخفة التي لا تُحتمل، لأن المسألة هنا ثقافية بامتياز وليست محض درس بلاغي نقدي، وهذا يعني  أن الثقافة التي تؤلف كيان النصوص المُبدَعة هي في محل تساؤل دائم، وعليه فإن الندوات الأدبية التي تتوسل مقاربة الواقعة على نحو أو آخر، مازالت في فقه المعنى، الذي يحرر المعنى في الواقعية، دون الاتكاء على ما أنجزته المدارس فقط، وإنما هي صيرورة النص الإبداعي التي تفرض على المتلقي شكل الاستجابة ليعادلها لما يعرف، وهذا رهان ثقافة النص قبل أي زعم لاحق، بل وموهبته أيضاً ولو كان المسمى جد تقليدي.
نسائل هنا لنتحرى في سائد المصطلح وناجزه أيضاً،  كي لا ينغلق الإبداع عليه، ولينفتح أكثر على ما تعنيه استجابة المتلقي الطازجة والذي هو غالباً ما يبحث عما تواضع عليه النقاد بالمعادل الموضوعي، وأكثر من ذلك المعادل الجمالي، وهذا رهان إضافي يضع اللغة والرؤية والطريقة السردية في قوس انتظار جديد.