“قواعد العشق الأربعون”.. الله يقيم في أعماقنا
“دهم الحب أيلا بغتة وبعنف كما لو أن أحداً ألقى حجراً من مكان في بركة حياتها السابقة” وأيلا روبنشتاين عاشت لأربعين عاماً، ومنذ ولادتها كما لو أن حياتها بركة راكدة حتى أتاها هذا العشق المباغت فعكر صفو الحياة، وراحت الدوائر تكبر وتكبر حتى وصلت الشطوط. فيا ترى كم أمضت أليف شافاق من الوقت تقرأ وتتأمل وتغوص في عالم الدراويش والصوفيين حتى اختمرت في رأسها الحكاية فنسجت روايتها بكل هذا العشق وهذا الشغف.
“إليف” المولودة في ستراسبوغ الفرنسية عاشت حياة غير سهلة، عانت انفصال الوالدين واضطرت في عمر مبكر الاعتماد على نفسها، بعيداً عن موطنها الأصلي تركيا فأمضت شطراً من حياتها في التعرف إلى ثقافات العالم ما طبع رواياتها بالتنوع الملحوظ، اهتمت كثيراً بدراسة التصوف لدى الأديان فكانت روايتها “قواعد العشق الأربعون” إضافة إلى روايات أخرى اتسمت غالبيتها بذات العمق من “شرف” إلى “النظرة العميقة” فـ “الحليب الأسود” و”لقيطة اسطنبول”.
زاهارا
قواعد العشق رواية ضمن الرواية، محاكاة بين قصة العشق الصوفي القديمة، بين الرومي والتبريزي وحكاية عشق بقالب عصري بين أيلا وزاهارا الذي أصبح “عزيز” بعد أن اعتنق الإسلام وهو كاتب رواية “الكفر الحلو” التي تتحدث عن “الرومي وشمس” وتقع بالصدفة بين يدي أيلا التي بدأت لتوها العمل في قراءة النصوص والمخطوطات في إحدى دور النشر. وخلال قراءتها للمخطوط تبدأ الحجارة بالانهمار في بركة حياتها الرتيبة لأربعين عاماً، ولن تكتشف أيلا أنها عاشت كما لا ترغب إلا عند لقائها المفترض بعزيز، تقرأ فصول الرواية فتتماهى مشاعرها وخيوط حياتها مع رحلة بحث شمس التبريزي عن خلاص روحه الهائمة خلف حبيب يحمل عنه هذا الإرث في قواعد حب الله الخالص.
الحب في مواجهة الخوف
في الرواية تقفز بنا الكاتبة في الزمان والمكان، بين الحكايتين وبين شخوص الرواية الواحدة لتسرد من خلالها فلسفة التبريزي والرومي في القرن الثالث عشر الذي كان مسرحاً للصراعات الدينية والسياسية والاجتياحات الصليبية لمدن الدولة العثمانية، بينما في الطرف المقابل جيوش المغول تغزو المشرق العربي.
كل هذا كان حاضراً في الرواية ليشكل خلفية لقصة مفعمة بفلسفة التسامح والتعايش تحاكيها قصة “أيلا وعزيز” فتخرج الكاتبة منها بقواعد عشق في قطعة فنية محبوكة بكل عناية. وفيها تؤكد أن هذا العصر الذي نعيشه لا يختلف في شيء عن القرن الثالث عشر في الصراعات السياسية والدينية والثقافية والنزاعات السلطوية والاجتياحات الاستعمارية، وكأنها تقول أن لا حل أيها الإنسان سوى الحب في مواجهة كل هذا الخوف وعدم الأمان والخشية من الآخر.
هكذا تبدأ أيلا قراءة المخطوط وقد كتب في أسفل الصفحة الأولى ما أثار انزعاجها: “لأنه على الرغم مما يقوله البعض، فإن العشق ليس مجرد شعور حلو مقدر له أن يأتي ويذهب بسرعة” ارتعش جسدها لوهلة لفكرة أن هناك قوة غامضة، قوة أخرى في هذا الكون تجعل شخصاً ما يتجسس عليها، كانت أيلا قد خرجت لتوها من نقاش تحول لخصام مع ابنتها التي أعلنت أنها تنوي الزواج من أليكس الأمر الذي لن توافق عليه أيلا.
رأس الواوي
“كنت أنفذ الأعمال القذرة لصالح الآخرين” يقول القاتل “رأس الواوي” في رواية “الكفر الحلو” ويكمل: “حتى الله أدرك الحاجة إلى شخص مثلي في خطته المقدسة عندما عين عزرائيل، ملاك الموت لإنهاء حياة الناس”. وبخفة ورشاقة تنقلنا الكاتبة بين شخوص روايتها من القاتل إلى شمس وقد أتته الرؤيا وهو في الحانة، الرؤيا التي ستغير حياته وتقلب حياة الرومي من رجل علم ودين إلى شاعر زاهد، يقول التبريزي: “تناهت إلي أصوات من بعيد، أصوات نعيق وعواء حيوانات ليلية وبعد قليل خرج من البيت رجل في منتصف العمر، لطيف الوجه كانت قسمات وجهه متوترة وعيناه تشيان بحزن عميق هو الرومي يصرخ وينادي: “شمس، شمس أين أنت” وفي الحانة أيضاً يفرج التبريزي عن أولى كنوزه وقواعده في العشق، يجادله صاحب الحانة وهو يقول: “إن كان الله هنا فهو لا يحرك ساكناً، ونحن نعاني من أسوأ النهايات، فماذا يعني ذلك؟”.
يقول: “إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعني أن قدراً كبيراً من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعماً بالمحبة والرحمة، فإننا نكون كذلك”.
اللقاء الموعود
سيهيم التبريزي باحثاً عن الرومي فيمر بالكثير من المصاعب والأهوال وسوف يدخل تكية الدراويش، يلتقي السيد والتلاميذ منتظراً وصول الرسالة التي تطلب من السيد البحث عن رفيق للرومي ليكون هو من يبحث عنه، سيذهب إلى بغداد للقيا الحبيب وفي الطريق إليه سيلتقي المتسول حسن، سيمر ببيت البغايا وستوصد صاحبة البيت الباب في وجهه “ابتعد أيها الدرويش، فهذا أقذر مكان في المدينة” فيجيبها غاضباً: “إن القذارة تقبع في الداخل، لا في الخارج، هكذا تقول القاعدة” ويلتقي وردة الصحراء التي ستترك كل شيء خلفها وترحل إثر التبريزي معلنة توبتها، وفي عام 1244 سيكون اليوم الموعود ويلتقي العاشقان، يقول الرومي: “اقتربت من الدرويش حتى أني رأيت الخطوط الذهبية في عينيه السوداوين، وفجأة غمرني إحساس غريب، كما لو أنني قد عشت هذه اللحظة من قبل، لا مرة واحدة، بل أكثر من عشر مرات” ثم يكمل: “عرفت أنني وجدت رفيقي، لكن بدلاً من أن أبتهج نشوة، كما خيل إلي، غمرني شعور بالرهبة “لتبدأ الحياة تأخذ مساراً مختلفاً وتنقلب حياة كل من حوله ستكون تلك الرابطة الروحية بين الاثنين نهباً للشائعات، وسوف يساء فهم تلك العلاقة وسوف يخونهما أقرب المقربين، تقول الرؤيا التي طالما رآها شمس: “ببطء اقترب الرجل من البئر، انحنى وراح ينظر إلى الأسفل، وهمس: شمس، شمس، يا أعز أعزائي، هل أنت هنا”.
فتحت فمي لأجيب، لكن لم ينبعث من بين شفتي أي صوت، ثم يقول: “خرّ الرجل ساجداً، وراح يجهش بالبكاء، ويخبط على صدره بقبضتيه ويصرخ، لقد قتلوه، لقد قتلوا شمساً”.
إيلا وعزيز
في زمان آخر ومكان آخر تستمر الرسائل بين أيلا وعزيز الذي بدأ يناديها محبوبتي وهيمن على تفكيرها وقلبها وباتت رسائله همها الأول دون أن تلتقيه، تقول له في واحدة من رسائلها: “في جميع الأحوال، ليس لرواية “الكفر الحلو” علاقة بقراري في كتابة هذه الرسالة أو لعل لها علاقة بكل شيء، فهي التي أفضت إلى ما نما بيننا” ثم تستطرد: “في البدء أحببت مخيلتك وقصصك، ثم أدركت أنني بدأت أحب الرجل القابع وراء تلك القصص”.
ستترك أيلا كل شيء خلفها بيتها عائلتها وأبناءها وأربعين سنة من الحياة الراكدة، وستذهب معه في رحلته الأخيرة.
هي ليست حكاية الرومي وشمس، وليست قصة أيلا وعزيز عاشق الصوفيين فقط، هي دعوة لنا لتخطي حدود الأديان والطوائف وكل الاختلافات التي تسود عالمنا، إلى عالم يسوده الحب غير المشروط الذي يتجاوز الثواب إلى حب الله الصافي.
بشرى الحكيم