أمة أقرأ.. أمّ أمة “فسبك”؟
ترى هل أُشبعت الكتب العظيمة التي غيرت وجه التاريخ فعلا بما قدمته بمحتواها الفذ والعظيم ،هل أشبعت دراسة ونقدا وتحليلا عميقا لمضامينها الفكرية والثقافية والإنسانية، ولم يعد فيها حرارة تحيا بها اليوم، وبالتالي ما من حاجة لتقديمها لجيل جديد ربما لم يسمع بها؟أقول ربما لأنني متفائل قليلا ولم أؤكد الطرح. وهل تقادم الزمن يقلل من القيمة الفكرية لتلك المؤلفات العظيمة خصوصا وأن الإصدارات الحديثة من الكتب المحلية والعربية والعالمية، لم ترق بمجملها للمصاف الرفيعة التي وصلت إليها أمهات الكتب عربية كانت أم معربة، بما قدمته من مضامين عابرة للازمان والخصوصية الثقافية لكل امة على حدة. هل عرفنا القيمة الحقيقة لـ “نهج البلاغة”؟ الكتاب الذي جعل الشاعر الكبير الذي رحل منذ مدة قريبة عن عالمنا “جورج جرداق” يترك الشعر وغيره من الفنون ليتفرغ لدراسة نهج البلاغة، وليقم بعدها صاحب أغنية “هذه ليلتي” الشهيرة بوضع موسوعة كاملة عن “نهج البلاغة” سمّاها «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية» وتقع في خمسة أجزاء تحت عنوان: عليّ وحقوق الإنسان، بين عليّ والثورة الفرنسية، عليّ وسقراط، عليّ وعصره، عليّ والقومية العربية، ثم أتبعها بملحق كبير بعنوان روائع نهج البلاغة.
هل فهمنا رسالة الغفران مثلا واطلعنا على كل كنوزها الأدبية والفكرية واللغوية، هل فهمنا أن المعري كان له أكثر من مئة سبب حقيقي دفعه ليخوض في واحدة من اعقد أنواع الكتابة، حوار لغوي ونقدي وفكري مع شعراء رحلوا وأين؟ في الجنة! رسالة الغفران التي ألهبت عقل “دانتي” للدرجة التي جعلته يسطو على فكرتها في مؤلفه الأشهر “الكوميديا الإلهية” الكتاب الذي لا يزال يدرس في جامعات أوروبا وأمريكا حتى اليوم.
هل حقا قرأنا المتنبي وأبو النواس وابن الرومي وسيبويه والفارابي والكندي وغيرهم؟ هل أصبحت الإلياذة وهما لذيذا؟ وهل لم تعد دون كيخوته من محرضات الفكر والخيال؟ أو ربما لم تعد حكايات شهرزاد وكليلة ودمنة من الحكايات التي تناسب ذوقنا الفني الحالي. إذا هل نذهب بقصد أو دونه بعد أن كنا أمة أقرأ إلى أمة “فسبك أو غرد”؟ هل نترك تلك النتاجات الفكرية القيمة منتصبة في مكتباتنا الشخصية تصطاد الغبار كفارس متقاعد، بينما أجيال جديدة يربيها السيد مارك بعيدة كل البعد عن كل نتاج فكري وثقافي ومعرفي عظيم غير وجه العالم؟
كنت من الجيل السوري الذي نشأ في مدارس تضم مناهجها كافة المذاهب الأدبية والفلسفية والفكرية العربية والعالمية، درسنا الشعر العربي بكافة مراحله وشعرائه، الفلسفة بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها، القصة، الرواية.
وكنت من الجيل الذي ابتاع كتبا مختلفة في الأدب والفلسفة والعلوم طبعتها مطابع الدولة بمبالغ زهيدة سواء من منافذ البيع التي تبيعها، أو من خلال معارض الكتب المتنوعة ومنها تلك التي تحولت إلى تظاهرة ثقافية حقيقة، كما كان يحدث في معرض الكتاب الدولي الذي صار قبلة الكتاب العرب والعالميين.
وأنا أرى اليوم بأم العين كيف أصبح الفيس بوك والمواقع الالكترونية الأخرى،هي المستقى الذي ينهل منه الشباب السوري والعربي معارفه، فما الحاجة لـ”قفا نبك” بينما لدينا هنا شاعرة لا تكف عن البكاء ليل نهار على حيطان الفيس؟ وما حاجتنا لـ كليلة ودمنة وها نحن نشاهد على اليوتيوب أغنية “نجلا والحصان”؟
إن كان من حسنة تحسب للمحنة التي تمر بها الأمة العربية الآن، فهو كشفها أننا كعرب كنا دائما بعيدين كل البعد عن مصدر المعلومة الحقيقي، مغرمين بإعلاء شأن “نيتشه” مثلا وفينا من لم يفتح حتى كتابا له! حتى صرنا لم نعد نسمع بجلسات “المثقفين” إلا: هل سمعت ما قال نيتشه؟ وهل قرأت ما قال “سارتر”، الجحيم هو الآخرون، To be, or not to be، الخ.
كشفت هذه المحنة أننا مُدّعو ثقافة وفكر، وما مرّ بتاريخنا الحديث من شعراء وكتاب ومفكرين، لم تكن لنتاجاتهم كبير أثر على الأجيال التي من المفترض أنها كتبت لها، ولو كان لمؤلفات الكثير منهم أي أثر فعلي وحقيقي في المجتمع، لما رأينا ما رأيناه ونراه اليوم من شباب يتركون جنة العقل ليلتحقوا بأول نداء جاهلي يصدر عن مغول هذا العصر. حاجتنا اليوم لإعادة تدريس الفكر العربي بمؤلفاته التي تنير العقل وتبهج الروح، صارت ملحة أمام ما نراه من ردة نحو علوم فاسدة، أقل ما فيها من فساد أنها تبيح دم الأخ وتبيح بيع الأوطان.
فيا أيها الساقي إليك المشتكى.
تمام علي بركات