“كمواويل” علي الراعي.. قصص قصيرة جدا بنكهة الموال
يوقد الكاتب والزميل الصحفي “علي الراعي” في مجموعته القصصية الثانية “كمواويل” حرائق قلبه بحطب من كلمات مطمئنة إلى بخورها الذي سيعبق منها بعد هذا الإضرام الوجداني الخاص.
كلمات غّناها وهو في طريقه إلى مسارب الحياة ممتلئاً بالحب حيناً وبالسخرية حيناً آخر، إلا أن السخرية المتسربلة في قطاف حنجرته، هي وجعه أو ترفه في الألم، الذي يختبره صاحب “كومة رماد” كمن يختبر حلماً يسرده، لكنه لا يتذكر كل تفاصيله، فيعمد إلى ملء ثقوب المنام بالخيال.
هو تطعيم إذاً لنسغ أرقه بلغة حارّة لها ميزة الموال “بيت العتابا”في سحره وليّه عنق الكلمة لتصبح عصفوراً أو جذع شجرة، أو نبعاً يثرثر.
“كمواويل” المجموعة القصصية الثانية التي خطها “الراعي” بعد “كومة رماد”بعشر سنوات، وهنا نستطيع أن ندرك لماذا أشغال القص عند”علي” هي بمثابة بوح بصوت عال وواثق أكثر مما هي استفاضات لصحفي لديه ميول أدبية.
جاءت المجموعة الصادرة عن دار بعل، في تقسيم ثلاثي له حدود الموال، إن كان في الشكل أو في المعنى المضمر بلغة هذا الشكل وطبيعته الريفية النقية، إذ تنقسم المجموعة إلى ثلاثة أقسام فرعية، وهي مواويل الحب، مواويل الحياة، ومواويل بعيدة، وهذا السياق التراتبي ليس موجوداً بواقع المصادفة التي يتركها المبدع أحيانا لتقود أقداره وحروفه، خصوصاً وأن صاحبها يبدؤها بقصيدة لها طعم القصة، أسماها “ما يشبه الدخول” يقول فيها:
“لو أن الشجرة التي نام تحتها نيوتن/غير شجرة التفاح/ولو كانت الثمرة/التي سقطت على رأسه/غير التفاحة/هل كان عرف سر الجاذبية؟!”.
ليدلف بعدها في عوالمه الشتائية نوعاً ما، التي تشي أجواؤها بشعر خفيف، يمر خلف زجاج الحكاية ويقف على حافتها، ليطل من بيت القصة على وعي القارئ، وكأنه يتقصد أن يبتعد في سورياليته، لا ليختبئ في دلالاتها،بل ليدرك إلى أي مدى ستتسع رحابتها المفترضة، لما يريد “الراعي” لكلماته أن تقول أو أن تحجب، داعياً الرمز بخفته إلى التموضع في بنيات تراكيبه اللغوية التي تشي بالشعر كما أسلفت، ربما لأن طبيعة الشكل في “كمواويل” جاءت حداثوية، قريبة من طبيعة الحياة وصيرورتها الحالية، صيرورة السرعة والصورة وتكثيف الاختزال، كي لا تصبح الكتابة هامشاً فقط، يحمل صيغ عبور لا تحتمله لا القصة ولا الشعر بوضعهما تحت ضغط الحياة بكثافتها وثقل مفاصلها اليومية.
وهذا ما سنلاحظه في أغلب نصوص “كمواويل” رغم تباين أحجامها وأفكارها، يقول الراعي في أحد مجازاته الشعرية المنتحلة صفة القص، بعنوان “عصافير”:
“زقزقت العصافير العشرة على الشجرة، تقافزت وفرحت كثيراً..!!
أحدٌ ما لم ينتبه إلى اختناق العصفور الوحيد في براثن اليد..!!”.
تنهض بنية القصة عند الصحفي والقاص ” الراعي”على التكثيف وإضمار معنى الحكاية في تقطير يشبه تقطير العناقيد قبل أن تصير روحا صافية، يكسرها الماء فتشع. حذف وتجريد في صناعة الدهشة، أحد أهم ثيمات “كمواويل” الدرامية، ونستطيع القول إن شبح القصة الملتف على ساق الشعر النثري تارة، والحاضر كجنس واضح من أجناس الإبداع على هيئة قصة قصيرة جداً، هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين مواويل “الراعي” الشعرية وشعرية قصصه ذات الإسقاطات الإيحائية المفاجئة والمباغتة، القائمة على السرد والحوار وصياغة الصورة، بمنطق مخاتل نوعا ما؛ فهي لا شعرية ولا حكائية، يكاد بوحها أن يضيء، لولا أن تمسه نار واقعية التجنيس الأدبي، لنتمعن قليلاً في بعض عناوين المواويل، أزرق، شباك، فراغ، أحذية شرقية، امرأة الحائط، القلب عند الباب، وغيرها. يبدو الهاجس الشعري حاضراً بقوة في المواويل التي يغنيها “علي الراعي” لنفسه، بعد أن خبأ في داخلها كل ما يحبه وكل ما يؤلمه ويرسخ قناعته بقدرة الكلمة على أن تصير معادلاً لحياة تضيق شيئا فشيئاً في شكلها الحالي، بعد سعة المروج، وضحكة الحواكير، وكرامة القنابيز.
يقفل “الراعي” مجموعته القصصية الشعرية بقفلة موال العتابا التقليدية التي تنتهي بالألف الساكنة وحرف الباء، كما هو متعارف عليه في العتابا “الجرودية” وذلك في قصة ما قبل خروجه من نعيمه الورقي، اسمها “لا سؤال ولا جواب”، وهي قفلة شهيرة لأحد مواويل العتابا التي غناها الراحل “فؤاد غازي”إلا أنها هنا قفلة مكسورة الخاطر.
تنتهي “كمواويل” بتكثيف شعري أيضاً على هيئة ق. ق. ج، وهي ما يشبه الخروج، يقول فيها: “في غيابك تمدد أيلول/على كامل مساحة الوقت/لا تتركيني أنتظر طويلاً/الربيع المخبأ في جيوبك”.
كمواويل، عتابا بطعم القصة التي لا صبر لها على طول بال الشعر، ولكنها تحتضنه مدركة أنه يغمرها كما تشتهي.
تمام علي بركات