ثقافة

غير مسموح

بشرى الحكيم

وقفت أم محمد أمام صورة تحمل وجوه الأحبة الذين فقدتهم، الزوج الذي كان أول شهدائها، وولديها اللذين لم يفصل بين استشهادهما أكثر من عشرة أيام، وابنها المفقود، ترحّمَت على الشهداء وتمنت للغائب أن يعود سريعاً إلى حضنها، ثم قالت: “أنا قدمتهم للوطن هدية، وسأقدم غيرهم. لدي سبعة أبناء، جميعهم على ذات الطريق، كلهم فدا الوطن”.
أما ميرفت الصغيرة “الكبيرة” فقد وجدت نفسها بين ليلة وضحاها أماً لخمسة من إخوتها الصغار، وقفت أمام الكاميرا وقرأت صفحاتها من دفتر الألم، ابتدأ أخاها قافلة شهداء القرية بعد أن غدرت به رصاصة قناص، بعد سنة وبضعة أشهر لحق به الأب الذي كان يشارك في مهمة قتالية، ثم أكملت الأم سلسلة شهداء العائلة برصاصة اخترقت نافذة المنزل واستقرت في رأسها. وكأنما الرصاص الغادر كان قدر العائلة، تجاوزها، ليقضي على”البقرة” التي كانت مصدر الرزق بعد رحيل الأب، لتضطر الفتاة إلى استلام زمام الأسرة وقيادة الإخوة الصغار إلى بر الأمان.
أمّا والدة الشهداء الأربعة “أم الفوز” فلم تتوان، بالرغم من وجع الرحيل عن تقديم من بقي منهم فداء للوطن فقالت: أولادي أمانة كبيرة من الله، لكن الكرامة أغلى، وكرامتنا من كرامة الوطن.
هي قصص وحكايات نسمعها ونعيشها يومياً، قصص تربكنا وتشعرنا بالحاجة لأكثر من عقل وأكثر من وجدان كي نحتمل هذا الفيض من التضحيات والإيثار، لكنه الوطن.
***
في واحد من حواراته سأل الإعلامي زاهي وهبي ضيفه الشاعر غسان مطر وقد أحاطت به الآلام منذ الصغر”: من أين تأتي بكل هذا الصّبر؟” فأجابه قائلاً: “إن المسألة ليست مسألة صبر، وهي ليست مكابرة على الجراح في مواجهة الألم، فأنا شخص يبكي كما يبكي كل الناس الموجوعين، ولكن!! عندما نرى هذا الكم من العذابات في بلادنا، وهذا الطوفان من الشهداء وأمهات الشهداء يزغردن في أعراس الشهادة، لا يعود لنا الحق أيّاً تكن الخسارة، أن ننهار”. يسأله مُضيفه: “لكنك ألا تتناول آلامك في قصائدك؟” فيقول:
– لقد تعلمت منذ تشكل وعيي، أن الدماء التي تجري في عروقي ليست ملكي لكن عواطفي الشخصية تبقى ملكي، أما أحزان بلادي وأحلام بلادي فهي ملك عام، يحق لي أن أكتب عنها وأقاتل من أجلها وأضحك وأفرح في ساعات نصرها”.
نعم غير مسموح لنا عندما نكون في أرض المعركة أن ننهار، فسورية التي تمر بأصعب مرحلة من تاريخها، تستحق منّا أن نكون أقوياء في مواجهة ما يتهددها، تستحق منّا أن نكرّس إيماننا بأن “الدماء التي تجري في عروقنا ليست ملكاً لنا، إنما هي وديعة هذه الأمة فينا، متى طلبتها وجدتها” تستحق ونحن نرى قوافل الشهداء تستبق الانتصارات، أن نرفع الصوت وننادي: “لمجدك سورية هذا القليل” …