الدكتورة ملكة أبيض تختزل قرناً من الإبداع في كتابها “ذاكرة اللواء”
الشعر”كلمة مجنّحة تمثل قمة كفاح الإنسانية لكي تحقق ذاتها “أراد الشاعر سليمان العيسى من الكلمة الشاعرة أن تكون أداة ووسيلة للدفاع عن قضية أمته،والكلمة الشاعرة عند د.ملكة الأبيض كانت نواةً كبُرت واتسعت لتصبح كتاب “ذاكرة اللواء” الذي اختزلت فيه قرابة قرن من الإبداع،وقد بذلت د.أبيض جهداً كبيراً في تجميع مقتطفات من النتاج الأدبي للشاعر واستخلاص محاور ومن ثمّ تصنيفها ضمن أهم الأفكار والمضامين التي تناولها،إضافة إلى تحليل الوزن الشعري معتمدة على دراسات باحثين عدة وفق إيقاع التفعيلة بعدما عملت على إيضاح التغيير من حيث الشكل الفني والمعنى للقصيدة والتنويع في نتاجه الأدبي مستعرضةً آراءَه في النثر والمسرحيات الشعرية والمقطوعات الصغيرة،وتوقفت ملياً عند عودته إلى التراث والتحاور معه في ضوء الحاضر،واستقصت أيضاً المفاهيم والقيم التي استند إليها،وبدت شريكة فعلية في مسألة التعريب التي عمل بها الشاعر.
الأمر الجميل أنها أفردت مساحة للوجدانيات ولقصائد خاصة كتبها لها الشاعر في مراحل مختلفة من رحلة العمر.كل ما تضمنه الكتاب لايأخذ سمة التجميع أو التعليق،وإنما التحليل الدقيق لأستاذة تعمقت في دراسة نتاج أدبي بدا هذا واضحاً من تناولها بعض المجموعات من أكثر من طرف.
بعد نكسة حزيران
بدأت د. أبيض من مرحلة ما بعد الصمت الذي ألمّ بالشاعر إثر حزنه عقب مأساة حزيران حينما توجه إلى الأطفال واليافعين من خلال مسرحية “أحكي لكم طفولتي”التي جاءت في عشرة فصول،وكذلك في “وائل يبحث عن وطنه الكبير” وقد تضمنا الكثير من ذكرياته في مرحلة الطفولة.
للمأساة آخِر
والمحطة الثانية مع” كتاب اللواء”الذي تضمن دراسة الشاعر في المرحلة الثانوية في دمشق ومؤامرة اقتطاع اللواء وتعرّفه إلى زكي الأرسوزي قائد ثورة اللواء الذي قاد الشاعر إلى المنصة لإلقاء قصائده. وتابع الشاعر صراعه مع الاحتلال فكتب قصيدة “للمأساة آخِر”
من ضفة العاصي من/الشلال غيبه الدمار”
التكريم لايعني الاعتراف
وفي صيف 1964 توقفت الكاتبة عند اللقاء الحميم حينما أُتيحت للشاعر فرصة زيارة قريته مع زوجته وأطفاله واستعادة شريط ذكرياته،لكنه اعتذر عن تلبية الدعوات المتكررة، لأن التبادل الثقافي بين اتحاد كتّاب العرب والأتراك والتخطيط لجعل منزل أهل الشاعر في النعيرية مركزاً ثقافياً عربيا يحمل اسمه لايعني الاعتراف بثقافة اللواء وهويته العربية ومن أجمل قصائده آنذاك القصيدة التي وجهها إلى صديقه د .حيدر اليازجي بعنوان “باقون في أنطاكية”
ياصديقي/أنت في أسطورة التاريخ/في التاريخ في أنطاكية /عرّج قليلا نحو ضيعتنا”.
التغيير في الأسلوب
بدأ تغيّر أسلوب الشاعر بكتابه “كي أبقى مع الكلمة” حينما شقّ درباً جديداً للكلمة تشهد على بقائه،وقُسم إلى ثلاثة أقسام:الأناشيد التي كتبها للأطفال- والشعر والنثر-وحوار مع التراث،وتميّزت أناشيد الأطفال بأنسنة الحيوان والبحر والقمر إضافة إلى الموسيقا والإيقاع،أما القسم الثاني الشعر والنثر فيضم مجموعة خواطر قالها الشاعر في مناسبات شخصية أو ثقافية، وأجمل فصل فيه كان الحوار مع التراث وهو تقليد خاص ابتدعه الشاعر بالعودة إلى مقتطفات شهيرة من التراث وإعادة قراءتها بما يتناسب مع روح عصرنا،كما في حواره مع قول المتنبي “تجري الرياح بما لاتشتهي السفن” إذ رأى فيه نوعاً من الاستكانة والاتكال في الوقت الذي نحتاج فيه إلى موقف آخر يبعدنا عن التخلف والتبعية، ويفسح المجال لحرية الإنسان وإرادته في صنع مصيره فيقول: تجري الرياح بما تشتهي السفن.
دلة القهوة
والمسألة الهامة التي أثارتها د.أبيض مفهوم الشعر الذي يؤمن به الشاعر فيشبهه بـ “دلة القهوة” التي تمتن الصلات وتكون نواة لتبادل المشاعر والآراء،ووسيلة لتحقيق أهداف بعيدة تتعلق بحرية الأمة واستقلالها ووحدتها وكرامتها، أيضا عبّر عن موضوعاته بأساليب جديدة تميّزت بتجارب حداثية جمعت بين الأصالة والمعاصرة.
مقطوعات صغيرة
في ضوء على “قطرات” اتجه الشاعر نحو كتابة المقطوعات الصغيرة بعد أن تعب من نظم القصائد الطويلة،وبقي حلمه الأول همّ الوحدة العربية والمضي في تحقيقها. وفي قطرات أيضا أفردت الكاتبة مساحة للوجدانيات لقصائد خاصة كتبها لها الشاعر كما ذكرى زواجه الستين من الدكتورة بقصيدة جميلة:
ستون من عمرنا مرّت/كوشوشة/ من نسمة عَبرت/من خاطر شردا”
القيمة الفنية والمضمون
في القسم الثاني من الكتاب تعمقت د.أبيض في أدب الشاعر وتحليله من حيث الشكل الفني والتفعيلة والمضمون فبدأت بالمسرح الشعري الغنائي للكبار، مثل مسرحية “إنسان” التي تناول فيها قضية المروءة والأمانة،وقسمها إلى لمحات،واستمد موضوعها من التراث،وبرأي الكاتبة أن المسرحية الشعرية تمثل خطوة في طريق الأوبرا الغربية،أما في مسرحه الشعري الغنائي للأطفال فركز على اختيار اللفظة الرشيقة الموحية والصورة الشعرية الجميلة والفكرة النبيلة والوزن الموسيقي الخفيف كما في مسرحية “الشجرة”.
تنويع في الشكل
وتوقفت الكاتبة عند دراسات تحليلية لدواوينه التي وجد فيها القارئ منعطفاً كما في(قصائد صغيرة -وكتاب الحنين -وهمسات ريشة متعبة)والتي كان فيها تنويع على مستوى الشكل،وتناولت البحور والرؤية الشعرية ونظام التفعيلة والقافية والرويّ وموسيقا الحروف والحركات والتركيب الفني واستخدامه التشابيه والاستعارة والكناية.
أدب الرحلات
وأوردت الكاتبة نصوصاً شعرية متناثرة تدور حول عدد من الرحلات الخاصة والثقافية،جاءت بعدة مؤلفات مثل (مدن وأسفار- وكتاب الحنين -والديوان الضاحك موجزاً -وديوان العرب والسّفر الجميل -ودفتر النثر والنعيرية قريتي).
المرأة الحبّ والوطن
وللمرأة حضور كبير في أدب الشاعر لاسيما والدته ورفيقة عمره التي كانت منارة يرى فيها الشاعر ضوء الحياة ـفيقول لها في قصيدة لقاء.
“وتلاقينا/كما تعتنق الرّملة العطشى/قطرة المطر/لقاء شطرين/ببيت غزل”
إلى كل امرأة تناضل وتكافح بقيت حاضرة في شعره النضالي ضد الطغاة المستبدين .ومن المسائل التي أضافتها أيضاً تجربتها مع الشاعر في التعريب.وأنهت كتابها بفصل المقاومة والشهادة في كتابات سليمان العيسى،فالشهداء برأي الشاعر هم إرادة الشعب الذي يتطلع إلى تحقيق أحلامه في التحرر والوحدة والتقدم.
الكتاب صادر عن اتحاد الكتّاب العرب -2014 وجاء بـ267 صفحة من القطع الكبير.
ملده شويكاني