محمد الفيتوري.. لن يجف مداد الشعر
كسحابة تعبر السماء على عجل فلا تمطر غيثها كاملاً.. تترك ناسها على جذع يابس ينتظرون عودة المطر .. ويحلمون بغمامة الندى تعود إلى وديانها الخضراء ورباها الظليلة.. هكذا يبدو الرحيل الذي غيّب الكثير من الأدباء والفنانين الذين غادروا دنيانا في أوقات متقاربة وكأنهم على موعد واحد.. رحلوا وبرحيلهم نفتقد لزمن شكلوه بتجاربهم وعطاءاتهم التي حُفرت في وجداننا، وشكلت ذائقتنا الثقافية وذخيرتنا المعرفية، فبالأمس غادر عبد الرحمن الأبنودي، وقبله كان سعيد عقل وجورج جرداق ورضوى عاشور وفتحية العسال وفاتن حمامة وكثيرون غيرهم. واليوم يغادرنا شاعر شكّل علامة بارزة في المشهد الشعري العربي، الشاعر السوداني محمد الفيتوري الذي غيّبه الموت صباح يوم الجمعة عن عمر ناهز الـ85 عاماً.هي لعبة الحياة تنال منا دائماً حين يباغتنا الموت ونحن في غفلة من لحظاتنا، هذا الموت الذي لم نعتد عليه، رغم أنه الحقيقة المطلقة، ورغم محاصرته لنا في كل لحظة دائماً نتجاوز عذره وكأننا نطمئن على أن أحبتنا وأصحابنا بعيدون عنه وعن فجيعتنا بهم.. لكننا وعلى حين موت نرى أنفسنا نبكي أرواحاً غادرتنا كانت تملأ حياتنا بالحب والعطاء.. نراها تغادرنا دون إيماءة وداع أو وعد بلقاء، وكل حادث موت يعيدنا إلى أحزان مضت نستذكر عبرها كل من فقدناهم بالأمس، وبعدها تمضي الحياة برتابتها المعهودة ونحن ننتظر أفول العمر الذي طوينا خلاله ملامح وجوه كانت عوناً لنا في عتمة أيامنا، فتبقى ذاكرتنا تئن تحت وطأة الفقد والفراق.
يعدّ الشاعر الفيتوري من رواد الشعر الحر الحديث ويلقّب بشاعر إفريقيا والعروبة، حيث احتفت مسيرته بالبعد الإفريقي في شخصيته وشعره. فقد عرفناه من خلال قصائده التي شكلت حلم عمره ليمتشق القصيدة سلاحاً في مساحة كبيرة من الحرية، فنستقرىء الجرأة والرؤية الجديدة والمتجددة، كنا نقرأ فيها بعضاً من أجوبة لأسئلة تلح علينا.. أسئلة عن الحياة، الوجود، الوطن، وقضايانا المتناثرة، كان دائماً يشحذ همم الجيل بأن القادم من الأيام أجمل وأكثر رحابة وحرية، كان متفائلاً بمستقبل الأمة وبجندها المستميتين في الدفاع عن وطنهم، هذا الوطن الذي كان يغمس قلمه في وجدانه ليكتب عن آلامه وآماله، أحلامه وتطلعاته وجماله المستباح.
كان شاعرنا الراحل شخصاً منتمياً لإنسانيته قبل انتمائه لأية قيمة أخرى، وكان مؤمناً أن الحوار والاختلاف مع الآخر هو الجوهر في فكره، وهو الطريق إلى التوافق، فكان يصوغ للآخر رأياً يفتح الباب لسجال ثقافي مديد الأبعاد متمسكاً بمبادىء هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء.. تلك المبادىء كان ينسجها كل يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها لتشع بروح جديدة في فضاء الشعر والمعرفة، حيث قدّم إبداعاً متفرداً، عبر مشروعه الأدبي الذي صاغه برؤية متكاملة ومنسجمة، وهذا دليل على صدق تجربته الإنسانية أولاً والأدبية ثانياً، رؤية حملت هموم وطن، وهموم الناس في وطنه، وهاهو ينضم إلى قافلة المبدعين الراحلين، لكن آثاره لم ولن ترحل، بل إنها ستزداد مع الأيام جلاء ووضوحاً، وستبرز أهميتها، وسينظر إليها على أنها شهادة حقيقية على المرحلة التي عاشها.
كان الفيتوري يرى أنه على الإنسان أن يكون مخلصاً لتجربته وذاته في أفق الانتماء الحضاري، وغالباً ماكان يردد “أنا لا أستطيع أن أخلع نفسي من انتمائي، حريتي تمارسها ذاتي ولكن في إطار انتمائي الحضاري والفكري والوطني والتراثي، وهذا كله يأتي مصهوراً في بوتقة التجربة الإنسانية التي تخرج كل ذلك بخلفية شعرية”. ولكن رغم سنوات الاغتراب الطويلة التي عاشها الفيتوري بقي الوطن ذاكرة مفتوحة على الحلم في روحه تعكسها قصائده بكل تفاصيلها، ومن يتمعن في شعره يقرأ عشقه لحالة الخوف واللحظات اللا إنسانية التي عاشها في مسيرة حياته، لأن هذه الحالات هي التي جعلته يدرك معنى أن يكون شاعراً وأن يكون إنساناً، وهذه الإنسانية تظهر جلية في أعماله، فنراه يفتح قلبه ليستوعب كل الناس من حوله، حتى أصبحت قصائده سجلاً وديواناً لكل أشكال الحركة المعاصرة بكل تداعياتها وإشكالاتها، وكأنما سكنت روحه ثنايا شجر النيل التي ظل متشبثاً بها حتى لحظته الأخيرة، إذ يقول:
“سأرقد في كل شبر من الأرض/أرقد كالماء في جسد النيل/أرقد كالشمس فوق/حقول بلادي/مثلي أنا ليس يسكن قبراً”.
ورغم كل مالاقاه في حياته من مآس وغربة ظل الفيتوري علامة بارزة من علامات الشعر والإبداع وبفقده غاب رمزاً من الرموز الأدبية والثقافية في العالم العربي، وقد كان له نظرة في شعراء في هذا الزمان الذي أصبح –من وجهة نظره- خالياً من الوطنيين إلّا ما ندر يقول: « إننا كشعراء أصبحنا مثل المغنين في هذا العصر مثل راقصات (video clib).
كان الفيتوري مؤمناً بانتصار الإنسان لقضيته الأهم، فيقول: “أجمل تجربة أعطتني إياها الحياة في مراحل حياتي هي تجربة الإيمان بالنفس.. فأنت كلما كنت شريفاً في مواقفك.. كنت بعيداً عن مطامع شخصية وكنت بالتالي مستغرقاً في آلام أمتك متوحداً معها منصهراً فيها، أنت قوي وقادر على عبور هذه المرحلة بكثير من الشرف وكثير من الاعتزاز”.
أدباؤنا ورموزنا يرحلون بحكم قانون الحياة وصيرورتها، لكنه رحيل الجسد وبقاء الروح نبتة خضراء مورقة في أجيال تمثل الامتداد لرسالتهم وتجربتهم.
سلوى عباس