“قبيل طلقة الفجر” كسر لجمود الأزمنة والأمكنة
أعاد الفلسطينيون ذكرى النكبة السابعة والستين منذ أيام في الوقت الذي مازال فيه العدو الإسرائيلي يواصل مجازره بحق الفلسطينيين المتشبثين بجذورهم وأرضهم،وما زال الكتّاب الفلسطينيون يمضون في مسارات أدب المقاومة والصمود،وتأتي المجموعة القصصية (قبيل طلقة الفجر) للكاتب عدنان كنفاني، ضمن كتاباته التي تصف قسوة الواقع الراهن وحملت في إهدائها “إلى أولئك الذين ينتظرون طلقة الفجر” ولم تحمل اسم إحدى القصص كما جرت العادة.
كانت عناوين القصص مكشوفة أحياناً تومئ للقارئ بالمضمون،وجاءت في مواضع أخرى غامضة توحي بشيء خفي على غرار الاستعارة،فازت بالجائزة الثانية لاتحاد كتّاب العرب،تنتمي المجموعة في قسمها الأكبر إلى أدب المقاومة والصمود فتختزل عبْر قصصها عمليات مواجهة واشتباكات تجسد الصراع العربي – الإسرائيلي،في حين أفرد الكاتب مساحة خاصة لمشاهداته الاجتماعية المعبّرة عن الفساد الأخلاقي والانحلال الوجداني في ظل غياب الضمير،وفي جانب آخر نلمح وجدانيات خاصة جسدت موقفاً طارئاً أو جزئية حياتية، كما في قصة “فلافل”التي رصد من خلالها التحولات الاجتماعية والاقتصادية عبْر مراحل تاريخ سورية المعاصر.تميزت المجموعة بتنوع عتبات السرد النثري الممزوج بروح شعرية موظفة ضمن السياق الدرامي للحالة،ورغم هيمنة السارد بضمير المتكلم على البوح بمكنونات الشخوص إلا أننا نلمح تعدد الأصوات من خلال الشخصيات الثانوية التي تساند الشخصية الرئيسية وتتناغم مع إيقاع سردي على صعيد السرد الحكائي والحواري،وتمكّن الكاتب من إيضاح البعد النفسي للشخصيات ضمن موقعهم المحيط بهم،وتسربه إلى دواخلهم وكسر حدود الزمان والمكان،واستحضار الماضي داخل بوتقة اللحظة المأزومة التي تعيشها الشخصية،لتأتي النهاية المدهشة،وتتضح جمالية المجموعة بالبعد عن تكرار المشاهد الفجائعية التي نعيشها،وكنوع من التغيير أشرك القارئ في تخيّل النهاية وتركها مفتوحة على غرار الأعمال الدرامية كما في قصة “ال-لكن– اللعينة” التي تتناول قصة حبّ غير مشروعة تنتج عنها ولادة طفلة يبقى مصيرها مجهولاً، وإذا عدنا إلى صفحاتها المئة والخمسين نقرأ صورة جديدة للسرد الذاتي أشبه بشريط سينمائي يصوّر مراحل الجريمة التي ارتُكبت باسم الشرف.
السرد الوصفي
وفي “رذاذ الجبس” يبتعد القاص عن التقطيع من حيث المضمون الإنساني في القصص السابقة،ليعود إلى أدب المقاومة والصمود من خلال حالة الأسير محمود وتوقف الزمن الآني ليستمر بمفهومه الفعلي عشر سنوات،تبدأ القصة على لسان عبد الفتاح ومن ثم يمضي السرد مع الشخصية الرئيسية محمود الذي وقع في الأسر،رغم أن رفاقه أتاحوا له فرصة النجاة إثر كمين بعد تنفيذ عملية اشتباك، ليتغير مسار السرد ويدخل حالة المنولوج حالة البوح مع الذات من جدران الزنزانة المشبعة بالرطوبة التي تعكس واقع السجناء المعتقلين،ليسترجع محمود شريط ذاكرته في المخيم،وهو يقع أسير النافذة المسلحة،ليربط بين وجع الذاكرة المتسربة إلى حاضره وبين مسحوق الجبس المنسدل من الجدران المتشققة،ليقصّ علينا صورة الأستاذ شهاب لحظة وجد نفسه إزاء مجموعة من الجنود شكلوا هلالاً أغلق فرصة النجاة أمامه،ليدمج الكاتب بتقنية القصّ بين الماضي والحاضر،فيعود محمود إلى ذاكرته حينما كان طالباً في المرحلة الابتدائية وطلب الأستاذ شهاب من التلاميذ أن يصنعوا من الجبس قوالب وهياكل حقيقية فتبرع محمود ووضع رأسه في وعاء عجينة الجبس فتسرب رذاذ الجبس إلى أذنه وفقد إثر هذه الحادثة حاسة السمع في أذنه اليسرى،لتأتي النهاية المدهشة حينما يقول”لماذا لم تهمس وتحذرني في أذني السليمة يا عبد الفتاح”؟
رمزية لأنسنة الحيوان
تأتي هذه القصة ضمن مساحة وجدانية بفنية رمزية عالية لأنسنة الحيوان بسرد واقعة تنسحب على عالم البشر حينما يتم الاستغناء عن الآخر في لحظة دون النظر إلى الوراء، وتتجلى جمالية القصة بعرض سلسلة مفارقات بين عوالم الحيوانات الأليفة التي تواجه الحيوانات المفترسة، وعوالم البشر على لسان قطّ زيتوني هرم وهزيل لم يعد يقوى على المزاحمة على حاويات القمامة والعثور على غذائه، يتحدث عن تجربته الشخصية في منزل دافئ ونظيف،وذات يوم أراد أن يتمرد فقفز على المقعد الوثير وبلّه وفي لحظات وجد نفسه على قارعة الطريق “لا أحد يعرف هل استطاع قط زيتوني ضال عبور الشارع العريض إلى رصيف النجاة المقابل،الذي بدا وكأنه نهاية لعالم إسمنتي”.
المكان استلهام للذاكرة
تبقى قصة “علمينا يا غزة” هي الأجمل وتقصّ حكاية كاتب يتابع عبْر الفضائيات بحر غزة فتتالى أمامه مشاهدات لمجزرة ومحرقة وإبادة للبشر والحجر تنفذ أبشع مخطط شيطاني على غزة المحاصرة، جثث مرصوصة لأطفال مازالت ابتساماتهم على وجوههم البريئة،ليدخل في حوار مع ابنه ذي السبع سنوات ليتابع صورة فتاة مبتورة الساقين تستقبل عريسها بلا ذراعين،صورة شيخ يقبض على ثوب طفل فقد عائلته ليعلو صوت انفجار يقضي عليهما ورغم كل شيء غزة باقية “علمينا يا غزة كيف ومتى نكتب”.
قبيل طلقة الفجر –عدنان كنفاني – دمشق –اتحاد كتّاب العرب.
ملده شويكاني