ثقافة

العرض المسرحي “وجع” طروحات صادقة بثيمات ومقولاتٍ مستهلكة

محض صدفة بحتة جعلت “شكسبير” يقف على مسرحيّ العاصمة “الحمراء- القباني” بنفس الزمان وقرب المكان،”الملك لير” عنوان العرض المسرحي الذي قدمه طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، كمشروع تخرجهم على خشبة الحمراء، و”وجع” العمل المسرحي الذي أعده عن مسرحية “عطيل” وأخرجه “لؤي شانا” ليطرح من خلاله مجموعة من المقولات أو المبادئ التي يقولها المواطن السوري لكن أمام الكاميرا، بما معناه الكلام البديهي الذي قاله السوريون منذ قرابة الخمس سنوات من الوجع، وما يقولوه في كل وقت، فالطروحات التي قدمها العمل حقيقية وصادقة لكنها تردد كلام التلفزيون الرسمي وأخباره، ولا تقدم شيئا جديدا من المقولات غير المستهلكة وبكثرة، خصوصا منذ اندلاع الأحداث السورية حتى الآن، مقولات من مثل فضائيات الدم،المؤامرة، النصح بالعودة للحمة الوطنية وغيرها من الوصايا التي قدمها العرض على لسان الفنانة السورية القديرة “ثراء دبسي” التي رفع وجودها من مستوى الحوار برفع مستوى الأداء، حيث قدمت “دبسي” اشتغالا مسرحيا صرفا خال من الرطانة التي يحملها النص.
ورغم اتكاء “شانا” على “شكسبير” في الفرجة التي امتدت قرابة الساعة، إلا أن أحد مفاصل العرض حمل هجاء ثقيلا للمسرح الكلاسيكي الذي يُعتبر وليام شكسبير أحد أهم  أعمدته، معليا من شأن الواقعي والآني على اعتبار أن من أحد أهم أسباب ومميزات هذا الفن -أي المسرح- هو بما رسخه في فترة مضت بعقول الناس، عن كونه مرآة الشارع ورجع صدى الناس، وتنفيس احتقانات شعبية كان الشارع السوري يتململها من قضايا أرهقته كالفساد والبيروقراطية، وكلنا يذكر العديد من الأعمال المسرحية التي قدمها القدير “دريد لحام” إن كان في كاسك يا وطن أو غربة، أو ضيعة تشرين، حيث بقيت هذه الأعمال المسرحية الخالدة تعرض وبشكل متكرر، وكان على من يريد الحضور من الجمهور أن يحجز مقعدا في المسرح قبل يومين، وحتى عندما تم نقلها تلفزيونيا، سوف لن يملها المشاهد بأي وقت يحضرها، فصدقها وعلاقتها الحية والحارة مع أجيال مختلفة للمتفرجين، جعلت كل جيل يعتبر نفسه انه المخاطب، وأن ما تقدمه “كاسك يا وطن هو” وجعه.وهذا ربما مدخل مناسب للحديث في غير وقت عن الأسباب الحقيقة لتدهور المسرح السوري، فالحضور قليل العدد الذي كان موزعا على مقاعد “القباني” يخبر بطريقة ما أن العرض لم ينل الرضا الجماهيري الذي عادة ما يتفاعل مع هذا النوع من الأفعال المسرحية.
بدأ العرض بمشاهد من فيلم “عطيل” لـ” أوليفر باركر” أراد المخرج من خلالها أن يضع الجمهور في حالة  فرجة سينمائية بحتة قبل أن يذهب بهم إلى المسرحة، إلا أن هذا الخيار لم يكن موفقا خصوصا وان العرض خرج كما يوصي في نصه عن كل الأعراف والتقاليد المسرحية  التي يطلب معد نص “وجع” ومخرجه تكسير شكلها وقوالبها الجاهزة، إلا أن ما فات “شانا” أن النص هو من عليه تقع هذه المهمة، لا شكل العرض وإقحام فنون أخرى لا ضرورة أو مبرر حقيقي وفعلي لها في عالم المسرح، حيث سيحضر الجمهور أيضا وصلة غنائية قدمها الممثلون من على بهو “القباني”، بعد أن طلبوا إلى المتفرجين اللحاق بهم لخارج خشبة المسرح، الأمر الذي شتت العرض والجمهور معا.
عمد المخرج لإشغال كافة مساحة الخشبة بمجموعة من الجدران التي تتحول حسب الطرح إلى نوع مختلف في الاستخدام، فهي بدأت كشاشة لعرض الفيلم الذي افتتحت المسرحية بمشاهد منه، ثم جدرانا رمزية تذهب نحو محاكاة الواقع السوري الحالي، بما يظهره هذا الواقع من خلخلة عنيفة للعديد من القيم التي كان لها كبير الأثر في تحقيق حالة التعايش الفعلي الذي كان سائدا بين أبناء الوطن قبل أن يحل بيننا “الربيع الأسود” وما آ ل إليه حاله الآن.
أيضا ذهب المخرج نحو خيار كسر الإيهام بشكل متكرر على امتداد زمن الفرجة، وفي واحدة من أشكال كسر الإيهام، كان توريط الجمهور بالمشاركة في العرض وذلك عندما يشتد الحوار بين ما تطرحه “دبسي” من أفكار عن ضرورة أن يكون الفن عموما وليس المسرح فقط الآن انعكاسا حقيقيا للحياة ولنقل هموم الشارع وهموم الوطن وهموم الفرد بأمانة وصدق، وبين الردود التي تلقاها من المخاطب “الجالس في غرفة الكنترول بما ترمز له هذه الحالة”، الذي تخاطبه مرة  بمخرج العرض وأخرى بكاتب النص، مرة لرفض الشكل الكلاسيكي للمسرح ومرة لرفض النصوص المستوردة والمضامين البالية  التي عفا عليها الزمن كنص “عطيل” مثلا، حيث سيحاصر صراخ “الدبسي” في رفضها لإسكات صوت العقل وما ينتج عن هذا الصمت من فساد وقهر وألم، مرة بمحاصرة الجدران لها وما ترمز له هذه الجدران من كونها أشكال التابو التي ترفض الخوض ومناقشتها بأي شكل، ومرة بإطفاء الإضاءة على الخشبة وما تعنيه من محاولة التعتيم على حالات بعينها تفرضها العادات الاجتماعية البالية والعقول المتحجرة التي ظهرت وبشدة بعد بدء الأحداث في البلد وكنا قد ظننا أن هذه النماذج قد اختفت في بلد يمور بالحياة وبتنوعها كسورية، وهنا ستطلب “دبسي” من الجمهور أن يضيء لها الخشبة، أيضا للقول بأن هذا الجمهور هم الناس وهؤلاء من يجب أن يحددوا بوصلة الواقع الآن بما فيه واقع المسرح، حيث  ظهر “وجع” من حيث لا يدري كاحتجاج مسرحي أيضا على أن يتخرج طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية بنص شكسبيري، بينما يجب أن تكون بداية انطلاقهم في الحياة العملية من مماحكة الواقع والنهل منه ونقد بعض أوجهه.
الفكرة التي قدمها “وجع” جيدة وقابلة  للتطوير، لكن الحوار الذي حاول أن يقدم هذه الفكرة كان دون المستوى وهنا نعيد التأكيد على أهمية أن يلتزم كل مشتغل بالفن بما هو بارع فيه، المخرج بالإخراج والكاتب بتأليف النص وإعداده والدراماتورج بتطوير آليات العرض وصقل مضمونه بقوة والقبض على مفاتيحه التي من شأنها أن تجعل العمل أكثر تماسكا وبالتالي أكثر متابعة وحضورا جماهيريا.
أيضا الشكل الذي اعتمده المخرج، في اعتماده فنوناً أخرى كالسينما والغناء في خدمة العرض،شوشت على العرض والجمهور وانقلبت في بعض مفاصلها على مقولة العرض نفسها، فالتغيير الذي يطلبه “وجع” لا يسري على الشكل فقط، بل على المضمون الذي قلنا أنه جاء معادا ومكررا ومستهلكا حتى التخمة، بينما يجب أن يكون مضمونا ًخلاقا ومبدعا خصوصا أن الواقع السوري غني وزاخر بالقصص والحكايات والمعاناة المتجددة.
“وجع” من إنتاج وزارة الثقافة – المديرية العامة للمسارح والموسيقا، المسرح القومي، إخراج لؤي شانا بطولة الفنانة القديرة ثراء دبسي بالاشتراك مع محمد شباط وهبة محمد مساعد مخرج غادة إسماعيل، يعرض حاليا على خشبة مسرح القباني.
تمام علي بركات