اجتثاث الذاكرة..
جلال نديم صالح
وثقت كتب التاريخ سابقاً الواقع الحالك الذي عاشته سورية في فترة الاحتلال العثماني، ويبدو أن ما ستكتبه وتوثقه خلال سنوات الحرب على سورية أشد سواداً. وما دفعني لهذا التشاؤم تقرير عرضته إحدى الفضائيات يتحدث عن واقع التعليم في مخيمات اللجوء السورية في تركيا، أطفال لم يتجاوزوا الخامسة من العمر يتم تدريسهم باللغة التركية في مدرسة أنشئت خصيصاً لأطفال اللاجئين السوريين، تحمل اسم أردوغان الذي يحلم ببناء إمبراطورية يتربع على عرشها. قرأت في ذلك التقرير الذي استمر لدقائق قليلة محاولة خطيرة ومكشوفة لإحياء سياسة التتريك التي فشلت في سورية زمن الاحتلال العثماني، وبالتأكيد كانت هناك عوامل ساهمت في إفشال تلك السياسة منها الوعي الوطني الذي يتمتع به غالبية الناس وإدراكهم أنهم يتعاملون مع دولة محتلة معادية، وكانت هناك جهات ومؤسسات تعمل بجهد سري وعلني على ترسيخ اللغة العربية والقيم والمبادئ، وهو ما حافظ على الثقافة والأصالة السورية رغم كل الضغوط، والمحاولة التركية اليوم أشد خطورة وأبعد تأثيراً لأنها تتم الآن على الأراضي التركية وتستهدف شريحة الأطفال الأكثر تأثراً من خلال منهاج دراسي بريء ظاهرياً لكنه بالتأكيد يحمل في طياته النوايا الاستعمارية التي تهدف لما هو أشد خطراً من مجرد احتلال الأرض، وهو احتلال العقول ومحو الذاكرة الوطنية عبر نسف اللغة العربية وما يتصل بها من قيم ومبادئ وتاريخ وتزييف الوعي السوري، أي باختصار بناء سوريين بعقول وانتماءات بعيدة عن الانتماء الوطني السوري، وما درجت الأسرة والمدرسة السورية على غرسه لدى الطفل السوري، وبالتأكيد ما يجري في المخيمات الأخرى مشابه لذلك مع اختلاف الأساليب والنوايا. وما يزيد من خطورة الأمر حالياً أن بعض من في المخيمات ينظرون اليوم لتركيا نظرة مختلفة عما كان سائداً زمن الاحتلال، وهناك أيضاً غياب للمؤسسات التي يمكن أن تقوم بدور مهم في مواجهة ذلك، خاصة أنه لا يمكن الاعتماد على مستوى الوعي لدى الجزء الأكبر من سكان المخيمات نظراً لبساطة غالبيتهم، والظروف الصعبة التي يعيشونها. من هنا وبحسن نية ربما وجدوا في تعليم أبنائهم في تلك الظروف فرصة مهمة، غير مدركين خطورة ذلك على المستوى البعيد، وهو خطر يجب أن نتنبه إليه على جميع المستويات، وأن نضع الخطط لعلاجه، من خلال جهات ومؤسسات محلية ودولية يمكن أن تلعب دوراً في إيقاف الاستعمار الجديد الذي يستهدف اجتثاث الذاكرة الجمعية الوطنية، لأنه عاجلاً أم آجلاً سيعود سكان المخيمات إلى حضن الوطن، وسنجد أنفسنا أمام جيل سوري لا يحمل من القيم والأفكار السورية سوى الاسم فقط.