بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية.. ندرة اليازجي.. الناسك في محراب الإنسان
لو سلَّمْنا أن لكل عصر حكماءه لكان من حكماء عصرنا، أما هو فعندما وصف نفسه قال: “أنا لا أرى، ولا أحس، ولا ألمس، ولا أشعر، ولا أفكر، بل أتأمل فأرى وأحس وألمس وأشعر وأفكر” وحين وصفه الآخرون تم الإجماع على أنه ما نزل مرتبة عن روسو وفلوبير وغيرهما من كبار المفكرين.. إنه ندرة اليازجي الذي كرَّمتْه وزارة الثقافة مؤخراً بمنحه جائزة الدولة التقديرية في مجال الدراسات والترجمة وهو المفكر صاحب الآراء الفلسفية الأصيلة، وعلى الرغم من عدم قدرته على استلام الجائزة لأسباب صحية، إلا أن مجرد حصوله عليها أدخل الفرح والسعادة لقلوب محبيه وطلابه الذين حضروا حفل استلام الجوائز، والذين وإن تمنوا لو أن اليازجي حصل عليها في خضم انشغاله ونشاطه، إلا أنهم أكدوا أنها تمنح لمؤلفاته الكثيرة التي ربّيت عليها أجيال عدة وقد كان خير قدوة لهم.حين يعرّف اليازجي بنفسه كمفكر يبيّن أنه محراب الحكمة اليونانية المتمثِّلة في تعاليم وأسرار دلفي ومدارس الفلسفة اليونانية، التي أنارت سبل التفكير الإنساني وغرف من معين الهند وحكمتها الخالدة ودخل بيت الحكمة الذي بناه الفكر الصيني ومثاليته الأخلاقية، وأخذ من شرقنا القديم خفايا ما انطوت عليه حكمته، فوجد في عمقه قمة ما توصل إليه العقل الإنساني، وصمَّم على معرفة الرواقية والأبيقورية، وشدته الأساطير إلى رمزيتها الظاهرية وباطنها السرَّاني، فنهل من معين الميثولوجيا اليونانية والهندية واليابانية والمصرية والكنعانية والأفريقية والأمريكية الوسطى والجنوبية المتمثِّلة بأساطير الأزتِك والإنكا والهنود الحمر والأوروبية الشمالية، وأدرك أن ثقافته العربية تتألق وسط كل الثقافات، فكان تأثره الكبير بابن عربي لأنه يشمل الإنسانية بأكملها، ولأنه يرى الإنسانية كلها بداخله، ولأن دينه أصبح دين حب، وبهذه الشمولية العظيمة الموجودة في فكر هذا الشيخ الصوفي كان الإنسان الذي كان شغل اليازجي الشاغل كائناً عظيماً كونياً وإلهياً بمفهوم التجلي.. من هنا يرى اليازجي أن ابن عربي عندما تحدث عن الحب قائلاً: “الحب بقدر التجلي والتجلي بقدر المعرفة” استطاع بذلك أن يقيم توازناً وانسجاماً بين العقل بوصفه الأداة الأساسية للمعرفة والإيمان القاعدة الأساسية والتوق العظيم للفناء.
ثقافة التسامح
كرسَّ اليازجي حياته للبحث عن الحقيقة، وعلَّمنا العمل على شخصيتنا وتحرير عقلنا من شرطيّة الأفكار وتعصبها، كما أنه علَّمَنا أسس الحوار مع الذات أولاً ومع الآخر ثانياً، وكل قارىء لفكره يجد أنه يستند على أربع ركائز لخصها في الحوار بوصفه وسيلة للتفاهم ونبذ الخلاف، وثقافة التسامح بوصفها تجاوزاً للإدانة والتي خصص لها اليازجي كتابات عديدة وقد بيّن فيها أنها تتحقق على مستويين: مستوى أخلاقي حيث يحقق فيه الإنسان سمو كيانه الإنساني الممتلئ بالمحبة والتسامح والتعاطف والمشاركة وتجاوز الموقف السلبي الصادر عن الآخر، ومستوى عقلي يحقق فيه الإنسان حكمة منطقية تقضي بفهم الآخر وموقفه الفكري ووجهة نظره ومبدئه وعقيدته، والدعوة إلى احترام الاختلاف القائم والاعتراف بالتنوع والتعدد الذي يغني الوضع الإنساني في كل مجال من مجالات المعرفة، وهذا يؤدي برأي اليازجي إلى تجرد ثقافة التسامح من الإدانة والإدانة المضادة.
موقفه الفكري
وبالخوض في تفاصيل موقفه الفكري –وهو مجرد مشروع نظريٍّ يتمثل في وجهة نظر فلسفية وعلمية وأخلاقية- سعى اليازجي كما يؤكد في كل كتاباته وحواراته إلى تحقيق الكثير من المبادىء، منها توحيد نطاقات الفكر الإنساني ووجهات النظر العديدة في دراسة مقارنة ترمي إلى القيام بوحدة تأليفية بين الدين بمفهومه الروحي، والفلسفة بمفهومها الإنساني والمثالي، والعلم بمفهومه النظري والطبيعي والكوني، والتعمق والتوسع في دراسة القوانين الطبيعية والإنسانية–الاجتماعية بهدف الولوج إلى القوانين الكونية التي تشملها، وتأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة تصلح لإجراء حوار بين بنات وأبناء الإنسان لقبول الآخر والاعتراف به، والسعي المثابر والهادف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية الملازمة لكرامة الإنسان وحريته الماثلتين في الوعي وتوطيد التفكير المنطقي، الرامي إلى بلوغ محاكمة سليمة تحرر العقل من القيود العديدة التي تحول دون تطويره.. ومن هذا المنظور أدرك اليازجي كما بيَّن في معظم حواراته وكتاباته أن ثقافات العالم وحضاراته تلتقي التقاءً مباشراً أو غير مباشر لتشكل مركزاً تتكامل فيه الوقائعُ الظاهرية والحقيقة الواحدة التي نعاينها ونحن نتوغل إلى أعماق الحكمة التي تتوطد عليها القاعدة الأساس للوجود الإنساني.
عالمية الإنسان
ولأن اليازجي عرف بأنه ذلك الإنسان المتصوف الناسك في محراب الإنسان تحدث وكتب كثيراً عن مبدأ عالمية الإنسان وهو مبدأ حثَّنا اليازجي على احترامه وإعلاء شأنه، حيث لا يحق للإنسان –بعرْفه- أن يعتدي على إنسانيته أو إنسانية غيره، ولا يحق له أن يستغله أو يحقد عليه أو يكرهه أو يرذله، والإنسان الذي يتصف بالصفات السلبية يقترف شرّاً ضدَّ إنسانيته هو، فالإنسان الذي يكره نفسه يكره الآخرين، والإنسان الذي يكره غيره يكره الإنسان كمبدأ الوجود المشخَّص والمجرد، والإنسان الذي يكره غيره يكره المطلق الذي هو الخير المطلق والمعرفة والحقيقة والكمال والوعي الكوني، مؤكداً اليازجي أن عالمية الإنسان كونه ينتمي إلى عالم واحد والأخوّة الإنسانية كما يشير لا تتعارضان مع اجتماعيته كونه ينتمي إلى وطن، وهذا لأن اجتماعية الإنسان هي إنسانيته، ولأن الإنسان يمثل المركز الذي يشع في اتجاهات ثلاثة : أولاً من كيانه إلى ذاته، ومن كيانه إلى المجتمع الذي ينتمي إليه ومن كيانه إلى العالم.
ويوضح اليازجي أن عالمية الإنسان تتحقق على صعيدين: الصعيد الاجتماعي في نطاق الوطن، والصعيد الاجتماعي الإنساني والعالمي، وعلى الصعيدين يمتد الإنسان في الإنسان امتداداً لا يجيز للإنسان خلاصاً إلا في الإنسان ومن خلاله، وهذا لأن كل إساءة تصدر عن الإنسان باتجاه الآخر تُعتبَر إساءةً للإنسانية جمعاء، وكل محبة تصدر عنه نحو الآخر تُعتبَر تضحيةً وتقديراً للبشرية جمعاء، وهذا أيضاً لأن الإنسان في جوهره يشمل الإنسانية كلَّها في كيانه، ومن هنا كتب اليازجي كثيراً عن ألم الإنسان، مبيناً إن الإنسان يتألم لأنه أضاع غايته، فهو لا يعرف أنه قد وُجِدَ ليخدم، وعندما يجهل الإنسان هذه الحقيقة ينقلب المجتمع إلى حقل صراع رهيب ينتج عن أنانية الإنسان، ويؤكد اليازجي أن الألم الإنساني ألم إيجابي يرفع الإنسان في درجات إنسانيَّته ليصل إلى روحانيته فلا يتألم إلا العظيم صاحب الشعور الإنساني العظيم.
ولد ندرة اليازجي” في مرمريتا عام 1932، حصل على الشهادة الابتدائية الفرنسية في مرمريتا، ثم تابع دراسته في لبنان فحصل على الثانوية ثم أتبعها بشهادة سياسة واقتصاد، لكن ميله الجارف للدراسات الإنسانية والفلسفية والاجتماعية غلب عليه لذلك أعاد النظر في شهادته واتجه إلى دراسة الفلسفة السياسية.
من مؤلفاته : دراسات في فلسفة المادة والروح، دراسات في المثالية الإنسانية، تنوع الحضارات ووحدة الفكر الإنساني، تأملات في الحياة النفسية والاجتماعية، فلسفة الإنسان الثائر، رسائل في مبادئ الحياة، الطريق إلى الحوار..
أمينة عباس