“فراشات السرد” وشهرزادات الرواية السورية
بعيدا عن الشعر بأوهامه وكثافته وعلى مقربة منه في انفعالاته وأثره،قامت الشاعرة السورية “رولا حسن” بجمع قراءاتها في المشهد الروائي النسوي السوري،والتي كانت قد نشرتها في صحيفة تشرين السورية ما بين عامي 2012- 2013،لتصدرها مجتمعة عن دار “بعل” بين دفتي كتاب،حمل اسم “فراشات السرد قراءة في الرواية النسوية السورية”. الخطوة بحد ذاتها ليست بالجديدة أي أن يقوم الكاتب بجمع مقالاته الصحفية في كتاب،فهناك العديد من الكتاب والإعلاميين والنقاد الذين قاموا بجمع منشوراتهم في الدوريات الصحفية،ليصدرونها ككتاب فيما بعد،ومنهم “طه حسين” على سبيل المثال لا الحصر، الذي وجد أنه من حق الذين لم يتسن لهم الإطلاع على تلك المقالات لأسباب عدة منها تقادم الزمن،تغير الأجيال وغيرها من الأسباب،من حقهم أن يقرؤوها ويطلعوا على الأفكار الواردة فيها،فمرور الزمن لا يعني بالضرورة انتفاء قيمة تلك المقالات الصحفية خصوصا وأن الكتابة الصحفية اليومية هي كتابة استهلاكية بطبيعتها،
لكن المميز في “فراشات السرد” هو ذاك الحس الأنثوي المتعصب للأنوثة بقيمها الكاملة من رهافة وإحساس عال بمواطن الجمال وإيمان يقيني بقيم الحق والخير والجمال،الحس الأنثوي الذي دفع ب “رولا” لتذهب نحو ترسيخ الأدب النسوي السوري تحت ضغط كبير بالمسؤولية التاريخية والأدبية في وقت صعب يمر على وطنها،ترى فيه بأم العين وهي المرأة الشاعرة وحفيدة شاعرات سوريات وعربيات عريقات كتب التاريخ أسمائهن بحروف من نور،كيف تساق المرأة للسبي، كيف تشرى وتباع بأسواق نخاسة الجهل والحقد،الأمر الذي لا تراه جديدا في المضمون ولا في الشكل،على اعتبار أن المجتمعات الذكورية لطالما وعلى مر التاريخ مارست ظلما واضطهادا اجتماعيا ضد المرأة،تغيرت أشكاله وللدقة غابت أشكال سادية ومتوحشة منه وحلت مكانها أشكال أخرى،لتعود وتظهر تلك السادية والتوحش والهمجية المنفلتة من كل عقال ثانية،كما حدث ويحدث في بلدها بفعل الإرهاب المتأسلم أو الإسلام الوهابي الجديد الممتطي هذه المرة ظهر الربيع الدموي والحرية المسمومة.
وكان قد جاء في مقدمتها عن الكتاب ما يلي: (سيلجأ الرجل بالتأكيد إلى سلطته الذكورية التي يمنحها له المجتمع لقمع الإبداع في الأنثى وذلك لا يكون إلا بمقابلة كل مل تبدعه بالتجاهل والصمت هذه النقطة بالتحديد هي من حركت في دواخل الشاعرة حس وجوب التوثيق الأنثوي للأدب والفن الأنثوي،فرحلة الكتابة هي رحلة شاقة بما يكفي لكنها أكثر شقاء بالنسبة للمرأة لأنها تدفع ثمنا باهظا لمواقفها في مجتمع تحكمه قيماً ذكورية.
تعتبر “حسن” أن البيئة الاجتماعية والثقافية هي التي تطرح المواهب بغض النظر عن جنسها،وإذا كان الإنتاج الروائي النسوي أقل من إنتاج الرجل فهذا مرده إلى الصعوبات النوعية الخاصة التي تعترض طريق الروائية،حيث أن عالم الرواية المتكامل والعريض والمتشعب،يستلزم العديد من ظروف البحث والتدقيق والخروج من دائرة المنزل الآمنة إلى عوالم السؤال والتحليل التي لم تكن متواجدة كما هي الآن بكبسة زر،وهذا ما لم يكن متوفرا في مجتمع شديد التمسك بتقاليده الموروثة،لذا يرجع العديد من النقاد قلة المحصول الروائي النسوي إلى عدم وجود تجربة حياة غنية هي ما تحتاجه المرأة بداية للخوض في عالم الرواية الذي يحتاج بكل تأكيد للقفز عن أسوار الحياة الرتيبة بتفاصيلها المتوارثة منذ أجيال وأجيال.
وتوضح “رولا” أنه تم الإعلان عن ميلاد الرواية النسوية السورية بداية خمسينيات القرن المنصرم والتي بدأ مخاضها مع ظهور الروائيتين “وداد سكاكيني”1919-1991،من خلال روايتيها “أروى بنت الخطوب” 1950م و”الحب المحرم” 1952م ،والروائية “سلمى الحفار الكزبري” 1922-2006،وهي تعتبر صاحبة الرواية الأولى في سورية،حيث صدر لها رواية “يوميات هالة” أواخر عام 1949،تلتها رواية “عينان من أشبيلية” ورواية “عنبر ورماد” 1970م،ومن ثم روايتها الأشهر “البرتقال المر” 1974م.
يمكن القول من خلال المواضيع التي طرحتها الروائيتان السوريتان في تلك الفترة،إنه ومنذ نهاية الخمسينيات والستينيات اتخذت معظم الكاتبات من حرية الجسد والحب عنوانا لحرية المرأة،وتعلل “حسن” أن الإلحاح في طرح مواضيع حرية الجسد والحب،جاء تحت ضغط سببين مهمين،أحدهما أن هذا الموضوع ألصق بحياة المرأة التي تعيش ظروفا قاسية فرضت عليها حصارا اجتماعيا كبت عواطفها ومنعها من الاختلاط بالآخر وما نتج عن هذا المنع من مشاكل نفسية تركت أثرها العميق في دواخل شديدة الحساسية والتعقيد كدواخل المرأة الشرقية،والسبب الآخر كما تراه الشاعرة هو أن معظم روائيات تلك الفترة كن ينتمين إلى الطبقة البرجوازية المتعلمة والمطلعة على الآداب والثقافات الغربية المتأثرة بموجة الوجودية،لذا كان من البديهي أن تكون مشكلة الحب والجسد هي المشكلة الأساسية التي تعاني منها المرأة البرجوازية التي لا مشاكل اقتصادية أو واقعا اجتماعيا مريرا وسيئا يدفعها إلى العمل وما قد يقع عليها من ظلم يمكن له أن يجرها إلى الهاوية على حسب تعبير “رولا حسن”.
تتطرق صاحبة ” شتاءات قصيرة” إلى تاريخ الرواية النسوية السورية بالعديد من المفاصل المهمة والغنية فيه،إن كان في بوادر تلك الرواية،أو التجديد فيها،وأيضا ستذهب نحو عوالم الرواية النسوية في الساحل السوري،ومرحلة التسعينيات التي استمرت فيها موجة الكلاسيكية إلى جانب الحداثة،مرورا بموجات التجريب والكتابات الروائية في الألفية الثالثة وليس انتهاء بصاحبات الرواية الواحدة وصاحبات الروايات المشتركة.
“فراشات السرد” الكتاب الذي خاضت في خضمه الشاعرة السورية “رولا حسن” بتواتر زمني امتد على عامين في تاريخ شيق وشائك كتاريخ الرواية النسوية السورية،سيفتح أمام القارئ مفازات ممتعة وتفاصيل مدهشة عن هذا العالم الأدبي المهمل نوعا ما،وهذا جهد كبير يحسب لهذه الشهرزاد السورية التي ذهبت نحو البحث والتقصي والقراءات الطويلة في عمل مضن ودؤوب،لا كرمى خاطر شهريار هذه المرة،بل كرمى خاطر شهرزاد نفسها التي روت مرة لتنجو من الموت فظلت تروي إلى الأبد،وهاهي تروي الآن لتنجو الحياة نفسها.
تمام علي بركات