ناظم الجعفري.. حلية التصوير الزيتي
أكسم طلاع
رحل الفنان ناظم الجعفري، حيث صار أبعد وأكثر صمتاً مما كان فيه، تاركاً لنا مدينة الأنفاس العميقة، وظلال المآذن، وسطوة النور على القباب، ونافورة الماء، وعريشة العنب فوق الزقاق الدمشقي المزخرف بالضوء، تاركاً للآخرين حراسة الشغف برائحة المكان والجمال المتبقي على مقابض الأبواب، وقناطر الحجر الأزرق المقوسة على انحناءات الروح.
عاش “الرسام الزيتي” يرسم دمشق وشوارعها القديمة والوجوه، يرسم مسجلاً بالريشة واللون والخط عشقه للمدينة وأهلها وجميلاتها، يرسمها برعشة الخائف عليها من الاسمنت، ومن البلادة، وبشاعة الجشع للمال، والربح، والاستهلاك، وثقافة البلاستيك، والتمدن.
رحل بجسده إلى النهاية، وقد سبق هذا الرحيل غيابه الذي لا يخلو من احتجاج الفنان واغترابه عن محيطه الفني، وجوقته الإعلامية والاستعراضية، وقد سعى أهل الرأي إليه مدركين قيمة ما أنتجه الرجل من أعمال، وما له من سجل حافل وطويل، وبما يمثله من حالة إبداعية تستحق الاحتفاء، فقد منح جائزة الدولة التقديرية في عام 2012، كما قدمت له وزارة الثقافة كل الدعم لإقامة معرضه في المتحف الوطني عام 2005، وتداول مع البعض فكرة إقامة متحف لأعماله التي تصل إلى خمسة آلاف لوحة، وربما أكثر.
إرث كبير تركه هذا الفنان المعلم لعدد كبير من الفنانين اللامعين، وهو من أوائل المدرسين في كلية الفنون، ومن المتشبثين بنزاهة الفن وأخلاقياته ومساعيه العالية، ولا ينكر أحد إسهامه في تطوير الحركة الفنية التشكيلية، فهو من روادها، وإحدى أهم علامات الفن التشكيلي السوري في القرن الماضي، أعرف مرسمه بداية شارع بغداد، حيث هيبة الفنان المعلم تضيف للمكان وقاراً ورهبة، تعلّم الكثيرون الرسم على يديه، وله القول: “إن الكثيرين من المواطنين عملوا في الرسم، إلا أنهم أخطؤوا الطريق الذي سلكوه من بداية حياتهم، الفن ليس كأس ماء يشربه كل إنسان فيروي ظمأه، إن فن التصوير الزيتي يحتاج إلى الكثير من صاحبه كالموهبة أولاً، ثم الإيمان، والقدرة على العطاء، والصدق، والشجاعة، وإلى التواضع، والأمانة، والمواظبة على الدراسة، والتحلي بالأخلاق والمحبة، وإن القدرة على الإبداع هي ما يتوّج العمل”.
فن الرسم الذي يصر المعلم الراحل على تسميته بالرسم الزيتي رافضاً فكرة الفن التشكيلي، ومنصباً نفسه حارساً لأخلاق الرسم وأمانة التصوير الواقعي ومتطلباته العملية، هو حيث يتواجد الفنان ساعات طويلة أمام الموديل أو المشهد الذي يرسمه بأمانة ومقدرة، وكذلك كان الفنان ناظم الجعفري حارساً للصورة، وإن كان ينوس نحو الانطباعية، وسحرية المشهد، لكن الحرفة والمهارة التي يمتلكها جعلته واثقاً مما يسجل، رافضاً حذلقة التزيين.. رحمه الله فقد عاش لدمشق والفن.