عاشق دمشق الجواهري في ذكراه السنوية
في تموز 1997 أقلعت طائرة العمر بشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري إلى -فوق الفوق- حيث الخلود الأبدي للعظماء والأبرار والأخيار. فالجواهري الذي أبحر عميقاً ومديداً في خضم الحياة، وتقلب على وردها الناعم، وشوكها الدامي، استحق من أصدقائه وأعدائه على حد سواء لقب شاعر الموقف والرأي الشجاع.
وبالرغم من كون الجواهري سليل بيت روحي عريق بالدين والروح والمقدسات، غير أنه استهلك معظم حياته في اقتناص اللحظة الحلوة الهانئة، واضعاً لنفسه منهجاً خاصاً في التعاطي الجسور مع السعادة واللذة وإبداع الفرح والمتعة العابرة شأنه في ذلك شأن الشاعر أبو الطيب المتنبي القائل:
وصلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل
وكثيراً ما كان يشرح فلسفته في الحياة، ودقة اختباره لأحوال العباد مردداً قول الشاعر العربي:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن الخـــافــقـــات لهــا سكون
وإن درّت نياقك فاحتلبها فلا تدري الفصيل لمن يكون
مؤمناً بعبقرية اللحظة الراهنة، وبركتها، ومفاجآتها فليمسك إذن بتلابيبها مردداً:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
والجواهري منذ شبابه الأول في أربعينيات القرن الماضي شق طريقه الشعري على صهوة الثورة الجامحة والتمرد الجسور ومصادمة الحكام، وبخاصة ذوي الكراسي المصنوعة من عرق العمال ودماء الفلاحين، وعنفوان الثوار فلم يتورع عن تناول الشرفات العالية المقام بالنقد اللاذع، والتحدي الغاضب، والكلمة القاصمة. فقد واجه الملك فيصل الأول عاهل العراق يوم رآه دمية في يد أبناء نهر- التايمز- لا حول ولا طول ولا قوة ولا حراك بقوله: لنا ملك تأبى عصابة رأسه لها غير كف التايمزيين عاصبا
وليس له من أمره غير أنه يعــــــدد أيـــــــــامــــاً ويقبض راتبا
فإذا كان سيد البلاد والعباد ليس له من عمل سوى انتظار آخر الشهر ليقبض مرتبه ويتدبر أمور معيشته، فما هي حال الناس في هذه المملكة المنهكة؟. كانت البطولة بجمهورها القدسي ومقاصدها الرفيعة تستهوي الجواهري وتأسره شعراً ومسيرة حياة فجاءت قصائده المنبرية الجماهيرية وقوداً للثورة وحداء للثوار ودعوة للتمرد والغضب والكفاح. فها هو يرثي أخاه جعفر الذي سقط برصاص عملاء الاستعمار البريطاني في بغداد بقوله:
تقتحم فُديت أزيز الرصاص وجرب من الحظ ما يقسم
فإما إلى حيث تبدو الحياة لعيـنـيـــك مـكـــرمــــــة تُــغـنـــم
وإما إلى جدث لم يكن ليـفـضـلـه بـــيـتــــك المـــعــتـــم
لقد عاش الجواهري في دمشق شباباً طرياً وشيخوخة صلبة فأحبها، بشراً وتراثاً وتاريخاً وأفراد لها أطول النخلات وأجملها في واحة شعره. وكثيراً ما سمعته يقول: “نحن العراقيين عندما نطل على دمشق من مطالعها في -أبو الشامات- نشعر بالسعادة المطلقة ونشتم روائح الجنة..” أسعفني الحظ وكنا في أول أيامنا في جامعة دمشق عام 1956 يوم أقيم احتفال لتكريم الشهيد عدنان المالكي فيما كان يسمى الملعب البلدي أن أشهد يومذاك حيث وقف الجواهري بقامته العملاقة وهيئته المميزة ليقول:
خلفت غاشية الجنوع ورائي وأتيت أقبس جمرة الشهداء
وقد وقفت الجماهير لتصفق للجواهري إعجاباً وإكباراً، ويومها كانت إذاعة دمشق تنقل الحفل على الهواء مباشرة، الأمر الذي جعل حكومة بغداد تصدر قراراً فورياً تمنع الجواهري من العودة، فيستضاف في دمشق برحابة الجيش السوري ومجلة الجندي في التوجيه المعنوي الذي أصبح اليوم الإدارة السياسية. حتى إذا حلت الذكرى الثانية للشهيد المالكي وقد دعي لإحيائها أكبر الشعراء في الوطن العربي كان الجواهري قائد القافلة الذي لا يطاول فقد قال يومها:
دمشق لم يأت بي عيش أضيق به فضرع دجلــة لو مسحت درار
وثم لولا ضميرٌ عاصمٌ حفرٌ للــمغربــات وللبترول آبار
أنا العراق لساني قلبه ودمي فراتـــــــه وكيــــاني منه أشطار
لو شئت قابل مثقالاً أصرفه شعراً من الذهب الإبريز قنطار
ويوم -سمح الزمان- وفي غفلة من الأعداء التاريخيين -ولو بعض الوقت- تم اللقاء بين دمشق وبغداد لمواجهة زلزال -كامب ديفد- في الواقع العربي، دعونا الجواهري لزيارة دمشق التي يحب، حيث ألقى قصيدته الشهيرة -جبهة المجد- والتي صحح فيها أغلاط التاريخ وخرافاته يوم رمى دمشق بما هي بريئة منه، فقال في قصيدته جبهة المجد، مخاطباً دمشق:
يا بنت أم البلايا عانقت نسباً أغلى وأكــرم في الأنســـاب معتنقاً
تيمور خف وهولاكو وقد سحقا كل الدنى وعلى أسوارك انسحقا
أما إيمان الجواهري القومي فيترجمه باعتقاده أن دمشق وبغداد تشكلان صخرة الأساس في هرم الحضارة العربية، حيث لا مجد لهذه الأمة ولا نهوض إلا بوحدتهما فيقول:
آمنت بالأمة استوصى بها قدر خيراً ولاءم منها الخلق والخلقا
من قال أن ليس من معنى للفظتها بلا دمشق وبغــداد فقد صــدقا
أما يوم حاولت أيادي الظلامية الغادرة اغتيال الرئيس الخالد حافظ الأسد عام 1980 وكان الجواهري في براغ -منفاه الاختياري- فقد قال لي: والله عندما وصلني الخبر عبر المذياع أصبت بدوار وقلق غير مسبوق، فأخذت دواء للنوم القسري، فإذا بشيطان الشعر يوقظني وأنا أدندن في الحلم بقصيدة:
سلاماً أيها الأسد سلمت ويسلم البلد
وتسلم أمه فخرت بأنك فخر من تلــــد
وفي إطلالة على دمشق عشية ذلك الصيف من عام 1983 وكان يستعد للعودة إلى براغ، قال لي: (وداعتك أريدك أن تستأجر لي شقيقة صغيرة تطل على دمشق أمضي فيها بقية عمري، كما أرجو أن يضمني تراب دمشق أينما حلت منيتي) وكاد العملاق يبكي وقد دلف صوب التسعين. فاستأذنته أن أسجل أمنيته ووصيته على -الكاسيت-. وفي اليوم ذاته أبلغت رجل الدولة المميز الرفيق محمد دعبول “أبو سليم” مدير مكتب السيد الرئيس وصية الجواهري. وبعد أقل من ساعة أبلغني -أبو سليم أن سيادة الرئيس وجه بوضع- قصر الروضة الذي كان يسكنه الرئيس اليمني (الايرياني) بتصرف الشاعر الجواهري، طالباً مني الحضور مع الشاعر صباح اليوم التالي لتسليمه القصر معززاً مكرماً وكان ذلك، حيث أصبح محجاً، للإخوة العراقيين المتواجدين في دمشق والمعارضين لنظام بغداد يومذاك وفي مقدمتهم الرئيس جلال الطالباني الذي يجل الشاعر الجواهري شأن جميع العراقيين. وقد بقي الجواهري في دارته الجديدة بدمشق حتى انتقل إلى بارئه حيث دفن في – السيدة زينب إلى جوار زوجته، وابنته. ولم تشهد سورية طوال تاريخها تكريماً لشاعر مثل ما كُرّم الجواهري لحظة نزوله الثرى. حيث حضرت رموز الدولة كلها، وألقيت في تأبينه لحظة الدفن كلمات رئيس الجمهورية، ألقاها نائب رئيس الجمهورية المرحوم زهير مشارقة، كما ألقت السيدة المتألقة نجاح عطار وزيرة الثقافة يومذاك كلمة مميزة في مستوى التقدير الذي كان يحمله الجواهري لها، كما ألقى الدكتور محمد سلمان وزير الإعلام، والدكتور علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب كلمة في تمجيد الشاعر الراحل. ومن الذكريات التي توقظها هذه المناسبة أنه أسعفني الحظ أن أشهد لقاء العملاقين بدوي الجبل والجواهري، وأن أستمع للحوار بين هاتين القامتين الشعريتين الشامختين، وأذكر أن البدوي العظيم قال للجواهري: أتذكر يا أبا فرات يوم كنا مدعوَين إلى ألفية المعري قبل ربع قرن، والتقينا قبلها في مقهى الروضة بدمشق، وسألتك: ماذا أعددت لهذه المناسبة يوم قلت لي: والله لم أكتب إلا بيتاً واحداً فقط، حيث ترددت على استحياء بإبرازه، وبعد إلحاح أسمعتني المطلع وهو:
(قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا)
فقلت لك يومها: لو علم المشاركون بهذا المطلع فقط فسوف يعتذرون عن الحضور خوفاً من الفشل في المنافسة.. فقام الجواهري -وقبّل- البدوي- مشيداً بتواضع الكبار والكرام. كان الجواهري مسكوناً بالفروسية والشجاعة شأن صعاليك العرب، ويعتبر الحياة، طالت أم قصرت، ليست سوى وقفة شموخ في مصطرع الأحداث. فقد دعي مرة إلى بلدة الحقف في جبل العرب فاستقبله شبابها بالزغاريد والحداء وإطلاق الرصاص، وحملوه على أكتافهم مسافة نصف كيلومتر، وبعد التكريم الذي كان مميزاً حسب التقاليد العربية الأصيلة التي يعشقها الجواهري، سألته ونحن في طريق العودة عن انطباعه عن هذه الزيارة فقال بالنص: (وداعتك أبا عمر، والله يوم حملوني والرصاص يلعلع تمنيت لو أصبت برصاصة قاتلة حتى يقال إن الجواهري مات محمولاً على رؤوس الرجال)!.
كان الجواهري عندما يتناول -قهوته- يفرد جراب تاريخه وذكرياته على مصراعيه، حيث قال لي: هناك حدثان رفضا أن يذهبا إلى دهاليز النسيان، الأول: عندما دعيت لتأبين الزعيم الوطني عبد الحميد كرامي وقلت مخاطباً الحكومة التي كانت تجلس في الصف الأول:
(باق وأعمار الطغاة قصار من مجــد مجـدك عاصف موار
وصحافة صفر الضمير كأنها ســـــلع تبــــاع وتشــــترى وتعــار
تنهى وتأمر في البلاد عصابة ينــهى ويأمــــر فوقـــهـــــا الدولار
المجد أن يحميك مجدك وحده في الناس لا شرط ولا أنصار)
حيث منعت من زيارة لبنان بعدها سنوات طويلة، وبقي المنع سارياً بالرغم من مجيء رشيد كرامة فيما بعد لرئاسة الحكومة اللبنانية، ولولا توسط سورية بعد 1976 لبقيت ممنوعاً عن زيارة من أحب في لبنان). والثانية هي إقامة الحواجز المانعة لزيارتي مصر طوال حكم الزعيم الخالد عبد الناصر بالرغم من قولي له في قصيدة المالكي عام 1956: (تنفس الصبح عن مصرية ولها في المهد شبل قبيل الزأر زآر
إسْلم جمال لنا نسلم فقد عرفت بك الكرامة في الشرقيين أمصار
يا دافع الخطر الموفي بكلكله عــلى العــروبة لامســتك أخطـــــــار)
إلا أن تقارير الوشاة كانت أكبر من محبتي لمصر. وبعد وفاة الزعيم ناصر قلت:
(أكبرت يومك أن يكون رثاء الخالــــــدون عهدتهــــم أحيــاء
أو يرزقون أجل، وهذا رزقهم صنو الخلد وجاهة وعطاء)
وقلت للمحروسة معاتباً:
(عشرون عاماً لم أزرك وساعة منهن كانت منية ورجاء
وهبي ثقيل الظل كنت فلم أطق أفمـــا أطـــــــقت فديتـــــك الثقلاء)
في ذكرى هذا العظيم في أمتنا تنحني الأرواح إجلالاً لما قدم للثقافة القومية، والأدب العربي الخلاق من إبداعات تحالف عبرها مع المستحيل في رفرف الخلود، وانطلاقاً من التآخي التاريخي بين رصاصة الجندي المقاتل وكلمة المثقف وقلمه المدافع عن العقل والعلم في جبهات التزوير الإعلامي التي نشهدها خلال الحرب الوطنية العظمى التي يخوضها جيشنا العملاق، وشعبنا العظيم، فإن الجواهري وأمثاله نحييهم ونجلهم إلى جانب شهداء شعبنا وجيشنا في الحرب الكونية التي يستعجل الشهداء فيها فجر النصر للعروبة والبشرية جمعاء.
د. صابر فلحوط