أزمةُ أخلاق
من منّا لا يحفظ بيت الشّعر الشّهير: (وإنّما الأمم الأخلاقُ ما بقيت/ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا). مَنْ منّا لا يذكرُه كلّ يومٍ ربّما أو كلّ موقفٍ وما أكثر المواقفَ المحبِطة!
الأمم أخلاقٌ أولاً، هكذا تعلّمنا وتربّينا جميعاً. أوّل ما نتعلّمهُ في البيت هو الأخلاق، السلوكُ الجيّد، الأدبُ في الحديث، النّظافةُ والترتيبُ والكلامُ اللّطيف، الابتعادُ عن الأذى، وبالتأكيد عدم التفوّه بالألفاظِ النّابية.
هذا مجتمعُ البيتِ المثالي، مع التأكيد بوجود البيوت الخاليةِ من هذا الفكر الأخلاقي والّتي تفتقرُ بطبيعةِ الحالِ لمقوّماتِ التربيةِ، إن كان بسبب الجهل أو التخلّفِ أو الفقرِ ربّما، العقليّ منه والمادي! ومجتمعُ البيت الأخلاقيّ هذا، يصطدمُ مع تقدّم الأبناءِ في العمر بمجتمعِ الرّفاقِ والحاراتِ والمدرسة. وهنا يحدثُ التّفاعلُ بينَ ما تربّينا عليهِ، وما نكتشفهُ من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ جديدة، وربّما عاداتٍ سيّئةٍ لم نعتد عليها أبداً.
البعضُ يستطيعُ حمايةَ نفسهِ من التّأثرِ بالمحيطِ السّلبي، والبعض الآخر يعيشُ الصّراعَ ما بين المجتمعَينِ المتناقِضَيْن (البيت وخارجه)، وفئةٌ أخرى لا بدّ أنّها ضعيفةُ التّحصين أساساً، فتنزلقُ إلى ما يشدّها إلى الأسفلِ من ثغراتٍ نفسيّةٍ واجتماعية.
لو أردنا أن نعمّمَ ما سبقَ على مجتمعٍ أكبرَ كالوطنِ مثلاً، فإننا نجدُ أنّ الأخلاقَ هي أساسُ أزمتنا اليوم، وما يحدثُ في كلّ بيتٍ من بيوتِ هذا الوطن تُرجِمَ على نطاقٍ أوسعَ وأشمل بكثير وفعلَ ما فعلَ سلباً وإيجاباً بكل تأكيد.
كلّ منّا عبّرَ عن أخلاقهِ وتربيتهِ إن كانَ بما كتبَ، أو بما فعلَ، أو حتّى بصمتهِ عمّا حدثَ ويحدثُ حولهُ من فظائعَ أو جرائمَ أو حتّى مبادراتٍ وحلول.
لا أحد يستطيعُ فجأةً أن يخرجَ من جلبابِ ظلّه، ويتحوّل إلى كائنٍ آخرَ غير ذاكَ الّذي كان عليهِ طوال حياتهِ السابقة. لا بدّ أن يتفاعلَ مع الأحداثِ تبعاً لما تربّى عليهِ في بيتهِ الأول، وانسجاماً مع ما شاهده من تصرّفاتِ والديه وأقوالهما وانفعالاتهما وحبّهما وكرههما أيضاً. ولا نستطيعُ أن ننكرَ أيضاً أننا أصبنا بصدماتٍ نفسيةٍ كثيرةٍ ربّما كان لها الأثرُ الكبيرُ في تحوّلاتنا الفكرية، والّتي أثّرت ربّما على مبادئنا العامة وأخلاقنا بطبيعة الحال. فالصدمةُ في شخصٍ قريبٍ مثلاً تولّدُ ألماً وحسرةً، وتُخرجُ انفعالاتنا عن كل الأطرِ المعهودة وذلك حسب قساوة الصّدمةِ وقُربها من الرّوح. والصّدمةُ في جماعةٍ من النّاس تخلقُ كآبة وقهراً، وترفعُ مستوى الغضبِ، وتُقرّبُ الإنسانَ من تجاوز حدوده الأخلاقية والاجتماعية.
في هذا الزّمنِ القاسي جداً، وفي هذه الظروفِ الصّعبةِ فقراً وحاجةً، الأمرُ الأصعبُ على كلّ منّا هو المحافظةُ على الأخلاق. أمر في غايةِ الصّعوبةِ وسط هذا الانفلات المجتمعيّ الحاصلِ، وخسارةٌ كبيرةٌ أحياناً لأناسٍ ومزايا وطموحات.
أن نحافظَ على إنسانيّتنا، على تعاطفنا مع المظلوم، على حبّنا للآخر، على فعلِ الخير دونَ مقابل، على مساعدةِ المحتاجِ إن استطعنا، أن نحافظَ على ما تربّينا عليهِ من خير، إصرارٌ يحتاجُ بذل الكثيرِ من الجهد، ويتطلّبُ الضّغطَ بملحِ الصّبرِ على جراحِ الكبرياء. والمضحكُ المُبكي الّذي يحدثُ أحياناً، أنّنا حين نشاهدُ أو نسمعُ عن موقفٍ أخلاقيّ وإنسانيّ، نُتأثّرُ ونتناقلُ الحدثَ كأنّهُ أمرٌ خارقٌ للطبيعة ويحدثُ ربّما كل عدة أعوامٍ، لا حدثاً يُفترضُ أن يكونَ طبيعياً جداً في حياتنا اليومية. هل نفكّر في هذا الحدثِ للاقتداءِ بهِ؟ هل نُراجعُ أنفسَنا؟ هل نلومُها؟ ليسَ كثيراً، يمرّ الحدثُ كأنّهُ استثناءٌ دونَ أن نحاولَ التعلّمَ، دونَ أن نسألَ: لماذا لا نفعلُ ذلك نحن أيضاً؟
أصبحنا وسائلَ نقلٍ بشرية، ممرّاتٍ لعبورِ الأفكارِ والمواضيع والأحداث، بدلَ أن تكونَ عقولنا محطّاتُ توقّفٍ واستراحة، لتزوّدِ تلك الأفكارِ والأحداثِ بالوقود الفكريّ، ولتركِ أثرٍ ولو بسيطٍ على دروبِ شرودنا الطويل. فالأخلاقٌ لا يتوقّفُ تطورها عند عمرٍ معيّن، وليستْ كتلةً واحدةً جامدة، بل دروسٌ في الحياة تبدأ منذ الصّغر وإن لم تجد تربتَها الخصبة الدائمة فإنها لا بدّ تضعفُ وتذبل وربّما تبقى على سريرِ الاحتضارِ طوال حياتنا القصيرة. بكل صراحةٍ ووضوح، أزمتُنا الأخلاقيّةٌ باتت ظاهرةً وحدثاً بحدّ ذاته، طغى على مفرزاتِ الأزمة الوطنية ونتائجها وتفاصيلها المؤلمة. وهذه الأزمة لا يمكنُ حلّها بسهولةٍ ولا ترتبطُ فقط بحلٍ سياسيّ أو اقتصادي أو اجتماعيّ، بل تتعدّى ذلكَ إلى الارتباط الوثيقِ بالقيم الأساسية لبناء الإنسان والمبادئ الجوهريّة التي نسيناها أو تناسينا تمازجها بالروح البشرية!
الأخلاقُ صفةٌ إنسانيّةٌ موجودةٌ في النّفس البشرية، لكنّها تحتاجُ إلى من يُبرزها ويعملُ على تنميتها وتطويرها نحو الأفضل، والارتقاءِ بها لتصبحَ الهدف الأسمى للفكرةِ الإنسانية.
وسام محمد ونوس