فاتح وأدونيس.. حوار فاتن بين جميلين
ربما اختلفت الوسيلة وأداة الخلق، لكنهما في نهاية الأمر ينتميان إلى عالم يخاطب الروح والوجدان قبل العين والعقل، إلى عالم الإبداع، من هنا كانت العلاقة بين الريشة والقلم بين الرسم والشعر موضوعاً لكتاب “أدونيس وفاتح – حوار” الذي أُسِّس بناءً على سؤال دار في رأس شاعر فيلسوف، فطرحه على مسامع رسام وشاعر له فلسفته الخاصة: “هل اللوحة عمل أدبي؟ وأسئلة أخرى توالت على لسان أدونيس الفيلسوف الجميل الذي اتخذ دور الصحفي اللحوح اللجوج، الذي يحاصر ضيفه دافعاً به إلى أماكن وزوايا ربما هرب منها طويلاً، لكنه استسلم أمام حصار محاوره الذي يذهب بعيداً في تفصيل الأشياء” والذي نجح في كشف فلسفة يرتكز إليها فاتح في إبداعه، الفنان الذي يفضل الإبحار في متعة الحياة والغوص في ألوانها، وبالرغم من اختلاف المنحى الذي يتبعه الاثنان بين فلسفة أدونيس وعفوية وتلقائية المدرس يبقى الكتاب رحلة رائعة عبر كم كبير من الآراء والأفكار، التي تنافرت حيناً وتلاقت حيناً آخر، ما جعل من الحوار نصاً غنياً راقياً رغم البساطة التي غلفته.
أسئلة الحياة الموت والشعر
في الحوار الذي أتى في أربعة أجزاء؛ غطت أربعة أيام من أسئلة الحياة والموت، الدين السياسة والشعر، أسئلة باحثة عن إجابات أتت عفوية حيناً ونزقة حيناً آخر لكنها كانت باباً فُتح بصعوبة، لمعرفة فاتح المدرس إنساناً قبل أن يكون فناناً، يقول الفنان الذي اقتحم العالمية منذ بدايات خمسينيات القرن الماضي في واحدة من رسائله لأدونيس: “أيها العزيز أردت أن أتحدث عن نفسي فلم أفلح ها أنا أتحدث إليك وأنا أقف بعيداً أتأمل ذلك الشيء الذي لا صورة له.. الكلمة.. وهي أعظم خطايا الخلق لن تزعل مني طالما استطعت سماع ما تقوله زهرة القرنفل الحمقاء لجاراتها عزيزي أدونيس لا تزعل كثيراً كل الذين بلا وطن هم بلا كلمة”. بينما يقول أدونيس بعد قراءته للحوار فيما بعد: “كان كلانا يحاول أن يصنع من اللاشيء شيئاً، من القشرة لُباً، ومن الترابِ ورداً، عاملاً على أن يجعلَ من فنه شكلاً لحياته. هكذا كان نتاج كلَينا بمثابة مسرح لعُري الحياة وبهائها، في ما وراء ثيابها الممزّقة، وجسدها المليء بالجراح”. ويتابع “فاتح المدرس ينبوعُ شغف وافتتانٍ تلتطمُ ضفافُه بأبعادٍ وأطرافٍ تلتطم هي نفسُها بشهواتٍ إبداعية عصيةٍ على كل ترويض أو تدجين. وكنا في هذا كله صديقين، كلما تذكرته، أتذكر ما يقوله أبو حيّان التوحيدي: الصديق آخر هو أنت”.
عن الطفولة، الأرض الطبيعة وفعل النسيان تحدثا عن الذكرى وعن الأعمال الكبرى في حياة الإنسان، يسأل أدونيس عن فعل العقل في الوقوف أمام الإنسان في اندفاعاته وعواطفه الكبرى وهل يعود هذا إلى الطفولة التي تجعلنا دائماً كفنانين بعيدين عن العقل وقريبين جداً من الحياة والحب والدهشة، وبتلقائيته يجيبه المدرس: «أنا لم أحترم العقل في حياتي. أنا أعتبره مجمع قاذورات وتحكمه أشياء في منتهى السوء. هناك شيء أبعد بسنتمتر واحد عن العقل، وهو الحدس، أنا أعتمد الحدس وأرحم المخطئ».
– هل تحب فناناً، أم عملاً فنياً؟ يسأل أدونيس
فاتح: هذا سؤال صعب، لأنه يوجد العديد من الفنانين الجيدين ولكن غير أخلاقيين، ولهذا أصبح عندي نوع من الانكماش، وأصبحت أظلمهم في حكمي لأنهم ليسوا أخلاقيين، مع أنهم جيدون في أعمالهم. لا بد من ربط الإنسان الفنان بعمله لأنه جزء منه. طبعاً هذا رأي ظالم ولكنني أؤمن به.
أدونيس: أي إن الأخلاق بالنسبة لك هي جزء أساسي من الفن؟
فاتح: الأخلاق هي سلوك مع خلايا اجتماعية. السلوك الجمالي كما أسميه. الفنانون الجميلون هم قلة وإن وجدوا فكل حركة يومون بها حتى وإن لم يرسموا هي فن. أي البحث عن الإنسان القوي النظيف.
أدونيس: جيد. إلى من تشعر بأنك أقرب: إلى فنان قوي يناقضك، أم إلى فنان ضعيف يقلدك؟
فاتح: “أرفض الاثنين”.
وعن المرأة للمدرس رأي لافت “المرأة هي الأسمى” يقول، ثم يشرح لصديقه: “المرأة بالنسبة للجنس البشري هي السيدة التي أنصفها السوريون وجعلوها إلهة الخصب” ويكمل صاحب “عود النعناع”: “المرأة ماذا أقول إنها شرف وجود الإنسان في الحياة”.
يختلفان كثيراً.. ويتفقان
وبالرغم من أن الاثنين لا يتفقان في الكثير من النقاط، لكن الحوار يستمر سلساً غنياً؛ معرجاً على الكثير من مناحي الحياة، يسأل أدونيس: “كيف تفسر عملية التقدم في المجتمعات؟” وعلى عكس رأي أدونيس وحركة التاريخ التي يعرفها الجميع، يرى “المدرس” أن عملية التقدم هي عبارة عن “نوع من الرياضة العقلية” إذ يقول لمحدثه: “إذا كنت تفسر التقدم بأنه البحث عن مزيد من السعادة والاستقرار والنظام والبوليس وتعاليم الكنيسة والخوف من القصاص واحترام القوانين لخلق جنة، فلا أعتبر ذلك تقدماً، إنه نوع من الرياضة العقلية، وهي ضرورية” ضرورية برأي المدرس لأنها تعني أن الشخص لا يزال يمتلك غريزة البحث عن الجديد، البحث عن الدهشة.
يسترسل الاثنان في حوار تباينت فيه الرؤى ووجهات النظر بين رأي للمدرس بأن الفن يشكل جزءاً من الفكر خلافاً لما يراه صديقه و”كيف نحرر الفن من النظرة إليه كوظيفة في المجتمع؟” يسأل أدونيس فيجيبه المدرس أن “انحسار الديمقراطية والفقر والخوف من الدولة” هي من الأسباب الرئيسية “لخمود النار الإبداعية” في عالمنا العربي، ويستدرك مفسراً “إن شعوباً تبحث 24 ساعة عن الخبز من غير الممكن لها أن تنتج فناً”.
يستمر الحوار بين أخذ ورد واعتراضات متكررة تحمل نوعاً من محاولة الانفلات من الأجوبة تجلت في تكراره “لم أفهم قصدك” أو “ما تقصد” ومع هذا نرى ونقرأ آراء ملفتة لمبدع كبير عن كل شيء، عن المرأة التي يراها ما حلمت به الآلهة، عن الحب، عن العقل والوطن الذي يراه مكاناً لحشرة لا تعرف وطناً آخر، فنان يعترف أن الإنسان يرسم كل الأقنعة عدا قناعه هو، يأخذ مادته من المحيط الذي ولد فيه، بالرغم من محاولاته الفاشلة للاستعارة. “حاولت أن أستعير أثناء إقامتي في إيطاليا وألمانيا وفرنسا ولم أستطع” وأكمل: “قال لي أستاذي يوماً: مدرس أنت حملت سورية كلها على كتفيك، وجئت إلى روما” مبدع يعرف كيف يتحدث عن مفردات لوحته، كل مكوناتها، ألوانها خطوطها، كل تفصيل فيها ولا يعرف كيف يفسر ما يعتلج في داخله من دوافع لرسم تلك اللوحة، ويرى أن مفهوم الجمال هو أمل الإنسان لأنه الحصانة الوحيدة ضد قتل الإنسان للآخر: “لم أجد في تاريخ البشرية قاتلاً فناناً أو شاعراً، ولكن هناك قتلة كثيرين، لماذا؟ يسأل ويجيب: “لأن هنالك حصانة أخلاقية خفية، مادتها هي التي تكون العمل الفني”.
رسائل
في رسالة من الجزء الأخير للكتاب- الذي تضمن مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الاثنين- وقد تحدث الاثنان سابقاً عن طلقة الرحمة التي تكون وسيلة الفنانين السعداء لمغادرة هذا العالم، يقول فاتح لصديقه: “يسرني أن أحدثك بهاجس يزورني بين آنٍ وآن كالناموس الذي يسمونه في حلب “الشيخ ساكت” لأنه يلدغني دون أن يرن جرس الباب، والعياذ بالله، هذا الهاجس هو أن الألوان التي نستعملها ونطلق عليها أسماء، أزرق، أصفر، أخضر، أسود، أبيض إلى آخره، لا تستعملها الطبيعة إلا في حال عقد قران بين زهرة وزهرة، بين ثور وبقرة، وبين إنسان وإنسانة” عفواً بين بشري وبشرية”! ويكمل: “لا أنكر أن العقل البشري في بداوته الحالية، يقبل الألوان بينما الحدس (الذي أرفع بدرجة من العقل) يرفض اللون والكلمة. هذا هو فاتح الذي عدل عن هجرة بلده في اللحظة الأخيرة لأنه لا يستطيع مفارقة شجرة التوت في داره ولا صوت نقيق الضفادع في نهر قويق، ولا ألوان سهول الشمال، كما أنه كما قال: “لا أستطيع اصطحاب كل تلك الأشياء معي”.
في كل جزء من الحوار نكتشف ما يتجاوز الفصاحة اللسانية، ونكتشف من خلال أسئلة أدونيس الاستفزازية عوالم “شاهد حقيقي على جمال هذه الأرض والإنسان، كما كان شاهداً على أحزان عصره” وبين الرسم وكتابة القصة والشعر والموسيقى أيضاً، ورويداً رويداً نتلمس مسيرة فنان امتلك فلسفته الخاصة العميقة، تجربة إبداعية وإنسانية كبيرة، تستحيل الإحاطة بها، كما استحالة تلخيص هذا الحوار الغني بين مبدعين جميلين من مبدعي هذا البلد الجميل.
بشرى الحكيم