ثقافة

رحيل مشاكس

سلوى عباس
ربما طفولته المشاكسة دفعت الفنان التشكيلي محمد الوهيبي للاهتمام بالفنون التي أدخلته في عالم الحلم بأن يعمل في الفن الذي شكل هاجساً مبكراً له، وكان أن أغراه بياض اللوحة ليبثها بوح روحه عبر لغة فنية تحمل الكثير من الموهبة والشغف، متكئاً في خطوته هذه على قراءاته ومطالعاته المتنوعة التي ساعدته على الإبداع في كل المجالات، حيث كان يرى الفن جملة إنتاج وجداني من نص مكتوب أو إنتاج موسيقي، مسرحي أو تشكيلي، وحالة تنفس الذات بطريقة غير غريزية، وأيضاً  حاجة ظهور التراكم المعرفي المحض لولادة عمل له ذاته، لكن الطاقة التي أنتجت هذا العمل قد يزيد عنها معرفة أخرى من ذات الطاقة فتخرج على شكل خاطرة ما، أو قصيدة، أو مقدمة شعور لنفس الصورة.
وفجأة توقف الحلم عن النبض وتبخرت الآمال، وكأنه لم يكن بالأمس موجوداً يرسم مشاريع للمستقبل الجميل.. هكذا أغمض الفنان الوهيبي عينيه ليغيب في سديم الأفق نجمة تألقت في سماء الفن التشكيلي زمناً، غادر دنيانا أول أمس لينضم لزملاء مبدعين رحلوا عنا قبل أن يكتمل رحيق جناهم.. رحل ليكون بجوار كثيرين من المبدعين السوريين والعرب الذين حملوا في وجدانهم كل أحلام العالم، ليرحلوا دون أن يحقّقوا منها إلا الجزء اليسير، وكأن قدر المبدع أن يقضي دون تحقيق الحلم الذي يناضل من أجله حتى الرمق الأخير في حياته، وكم تتشابه حياة المبدعين، حيث يناضلون ويتحدون الحياة وصعابها بإبداعهم الذي يحاربون عبره القبح بالجمال.
تعرفت إلى الراحل محمد الوهيبي من خلال معارضه الكثيرة التي أقامها، وفي الملتقيات الفنية التي كان يشارك فيها منطلقاً من إدراكه لدور الفن في إنتاج مجتمع معافى، ودوره كفنان في رعاية فنانين شباب يمثلون امتداداً للإبداع بكل مجالاته، وقد كان يبدو من حديثه وتحليله للرؤية الفنية لأي معرض يشارك فيه عن حالة استشرافية متمعنة في الثقافة والفن، وكثيراً ما كان يؤكد على فكرة راهنية الحياة واقتصارها على لحظة لا يدري المرء متى تباغته وتأخذه إلى عالم آخر مختلف عن العالم الذي عاشه.
ثم توالت لقاءاتنا، وتعرفت إليه عن قرب أكثر، وفي كل مرة كنت ألتقيه كنت أكتشف فيه ذلك الإنسان المختلف والمتصالح كثيراً مع فنه وذاته، حيث كانت  اللوحة تمثل بالنسبة إليه كما حدثني مرة: اللوحة مساحة بوح شخصية للفنان، هي لعبة طفلية تنمو وتأخذ أشكالاً أخرى كأي لعبة من لعب الأفكار، وبقدر ما أحافظ على هذه اللعبة وتجديدها قدر ما تعطيني هذه اللعبة الخيال والخيار، هي بث طاقة الذات لتحديد شكل المنجز سواء كانت صورة أو قصيدة أو مقالة.
هكذا عاش الفنان الوهيبي الحياة.. عاشها بعفوية وحب وغادرها بذات العفوية والحب الذي نقرأه عبر الحزن الكبير الذي تركه فراقه في روح كل من عرفه.. فلترقد روحك بهدوء وسلام فناننا العظيم الذي ستبقى مساحة الحلم التي تركتها لدى محبينك وأصدقائك شاهدة على مسيرة مبدع لن يُنسى.