إلى من يهمه الأمر
تمام علي بركات
يبدو أن الحديث عن ضرورة إجراء مراجعات حقيقية للواقع الثقافي بكافة مناحيه الذي كان قائما وما زال مستمرا شكلا ومضمونا، والعمل على تغييره وتغيير بناه وآلياته، لم يلق أذانا صاغية بعد، خصوصا وأن هذا الواقع أثبت وبجدارة مدى هشاشته وضعف تأثيره الفكري في المجتمع السوري، طبعا عدا عن دوره السلبي “كي لا نوصفه بصفة أخرى” تجاه القضايا المصيرية التي يمر بها الوطن الذي احتمل هرائه وترهاته وترهله من مبدأ أن حرية التعبير مقدسة للجميع، لنكتشف بمرور الأيام وتعاقب الفصول أن العديد من المثقفين المتطفلين على الشأن الثقافي الذين تنادوا بهذا الحق، هم أول من تطاول على الوطن وعلى قاماته الشامخات، وما الأجيال التي رأيناها تنخرط في العمل الإرهابي المسلح ضد وطنها والذي من المفروض بالحالة الثقافية التي كانت سائدة في البلاد أن تجعله من خلال دورها الطبيعي في قيادة المجتمع المثال الأول والقيمة الأعلى التي لا نقاش فيها،ماهذه الأجيال وما سلوكها غير الأخلاقي وغير الوطني وغير الإنساني إلا محصلة لهذه الحال الثقافية، فعندما يكون الانتماء هشا عند الشاعر والكاتب والمثقف، سيكون هشا عند الناس، وعندما يكون التطاول على الوطن سببا لبزوغ نجم ذاك الكاتب أو ذاك الشاعر، فمن الطبيعي أن يحذو حذوهم مرتادو الشأن الثقافي، خصوصا في بداية اشتغالهم في هذا الشأن، فالقدوة لديهم ليست بنتاجها الأدبي والفكري، بل بنجوميتها وحال شهرتها وما تدره من مال وتقدمه من سلطة، النجومية والشهرة التي بتنا نرى كيف يجري خلفها اغلب المثقفين الذين يعانون من مزاجية يعترفون بها في أغلب إطلالاتهم وكأنها الحال الخاصة والمميزة بالمثقف على “اختلاف نوعه” دون غيره. وكان من أمراض الحال الثقافية الراهنة وما زال، هو لازمة أن يبدأ المثقف حياته الثقافية بتنوعها “كاتب- شاعر- فنان-الخ” بعداء مبطن بداية لبلده، إلى أن يهديه الله إلى “شلة” تمجد هذا الفعل وتراه خارقا للعادة ، فيصبح من ألمع نجومها المنظرين على الوطن وعن حالته وعن ما يجري به وفق رؤيته السطحية والمجتزأة للواقع. لطالما تفاخر أصحاب الرأي الحر بشدة اعتناقهم به وإيمانهم العميق بمدى تأثيرهم في النشء والأجيال من خلاله، ولم يكونوا ليحيدوا عما توصلوا إليه من قناعات بعد مماحكات طويلة من إعمال الرأي والتفكر بعد التعلم والاكتساب، فها هو شهيد الفلسفة سقراط، تجرع السم ولم يرض أن يغير قناعته ورأيه، وهاهو “غاليليو” يختار السجن على الخضوع لطلب الكنيسة بتغيير رأيه حول نظرية دوران الأرض حول الشمس التي أيد فيها غاليليو “كوبرنيكوس” ولطالما أيضا اجتهد الأدباء والمفكرين في إعلاء شأن أوطانهم على كل شأن مهما علت قيمته المادية والمعنوية.
لكن بماذا يفاخر العديد من “مثقفينا” في بداية الأزمة التي نحيا بين مفاصل آلامها اليوم؟ رزمة مكونة من 10000 آلاف دولار، تم توزيعها عليهم في مشيخة قطر، ليناصبوا كرمى خاطرها بلادهم كل العداء الذي لم نشهد له مثيلا ماضيا ولا اعتقد أن خسته سيكون لها شبيها حاضرا.
العبرة من كل هذا بأن كل الطروحات الثقافية والفكرية التي تبناها غير جيل من المثقفين والمفكرين السوريين وأشباههم، أثبتت وبالدليل القاطع وبما لا يدع مجالا للشك، أنها أطروحات فاسدة، بريقها قد يكون لامعا، أما مضمونها فقد رأينا فعله على أرض الواقع، ومن رأى ليس كمن سمع.
سورية بلد خير وعطاء وفكر، وما يفعله أبناؤها في ميادين القتال من معجزات يقف أمامها الزمان خاشعا، يجب أن يقابلها في ميادين الفكر والثقافة ما يرسخها ويؤكد عليها ويعممها، وهذا ما لم نجده حتى اللحظة اللهم إلا ما ندر.
وهذا ما نضعه كسوريين في رسم وزارات الثقافة والأعلام والتربية وغيرها من الجهات المعنية بهذا الشأن، وأول ما يجب برأيي وضعه في الحسبان، هو نبذ كل مرتزق ومتقرش ومتزلف في هذا الأمر، والقضاء على كل الواسطات والمحسوبيات التي تخترق الجسد الإعلامي والثقافي والتربوي، وإلا فإن كل الدماء التي بذلها أخوتنا وأبناؤنا في معارك الشرف والكرامة والدفاع عن الحق وقيمه ومعانيه، ستذهب سدى، فبناء الإنسان هو الحاجة الماسة اليوم والبارحة وغدا، وتلك الدماء الطاهرة، هي خير معلم وخير مربي وبنّاء.