ثقافة

قراءة في إشكاليّة “صورة الآخر”

لا مراءَ في أنَّ الآخر هو مرآتنا الصَّادقة، نحن “الشرقيين “وبقدر خبرتنا بالآخر تكون معرفتنا بعوالمنا المجهولة، أمَّا أن نحيا في غفلة عن معرفة الآخر وفي صمم عن سماع صوته فحياتنا حينئذ ما هي إلا قفزةٌ في المجهول، لأنّنا نحيا دون أن ندري ماهياتنا، فأنت لا تدري صدق ما عندك من زيفه إذا لم تعارضه بما لدى الآخر، ولولا معرفتنا بالرديء ما عرفنا الجيد، إذن، لا بدّ من وعي العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، لتكون أحكامنا موضوعية بعيدة عن الهوى، لكن من الآخر بالنسبة إليك؟ هل هو المختلف عنك ثقافة أو لغة أو ديناً وانتماء فكرياً أو عرقياً أو قومياً…؟ لعلَّ كلّ واحدٍ من هؤلاء هو الآخر بالنسبة إليك.. لأنَّ الآخر هو المختلف عن الأنا التي تفكر وتحلم وتتألم بها، فعلاقة الأنا مع الآخر المختلف، قد تكون تصادمية أو تصالحية، وهذا يُفضي في أكثر الأحيان إلى اتساع الأفق وازدهار الأنا… فنحن-  أهل الشرق – في حاجة إلى الآخر وإلى المعرفة التي يقدمها، لنتعرّف مكمن الأخطاء عندنا، فالآخر قد يكون معادياً أو مصادماً أو مصالحاً أو منبهراً “بالأنا الشرقية” التي تكونت عبر دهر طويل. وما من ريب في أنَّ الصورة النمطية المشوّهة التي يتداولها الغرب عنّا وليدة جهله بحقيقتنا أولاً، وعدم تحملنا لمسؤولياتنا في تشكيل صورتنا لديه ثانياً، فنحن قبل غيرنا مسؤولون عن تشكيل تلك الصورة، والسؤال هنا ألسنا أصحاب فكر وحضارة؟ هل المعرفة جزء أساسي من حياتنا اليوم؟ ما موقع الفن والجمال من خارطة اهتماماتنا بوصفنا وارثي أمّة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ؟ من المسؤول عن رسم هذه الصورة؟. ونحن نوقن بأنَّ لغة الفن لغة عالمية، أوليس (جارودي) ذلك الفيلسوف والناقد الماركسي قد دخل الإسلام لتأثره بفن العمارة الإسلامي، لا غرابة في ذلك!. ولا أحسب أنّه في حاجة لأن يتقن العربية لكي يتفاعل ويدرك انتماءنا الفكري والمعرفي، فمسؤولية الجمال والقيم الموجودة في حضارتنا تقع على عاتقنا وإن لم نخدم هذه الثقافة بالمعرفة والانفتاح وتطوير الفكر فنحن عالة على هذه الحضارة، ولا بدّ من التذكر أنه من أصول حضارتنا أنَّ الاختلاف ليس بالضرورة أن يُفضي إلى خلاف، وأنّ الاختلاف ليس ذنباً، بل الاختلاف شرعةُ الله في خلقه، والأديان السّماوية تنوعت لكنها لم تكن يوماً باعثاً على الصّراع ولم تدع إلى إلغاء الآخر!. ونحن حين نقرأ الكتب التي وثقت حضارتنا ككتب الجاحظ وأبي حيان التوحيدي؛ نجد الانفتاح الذي أسس يوماً ما لحضارة عريقة وراسخة، فمن منا لم يسأل لماذا بقي الجاحظ مؤثراً إلى يومنا هذا؟ ولماذا نفتخر بإرث كاتبٍ عظيمٍ مثله؟ فهو حين يعرض لنا صور بخلائه، نجد أن قصصه تقوم على العرب والفرس، ولم يميز بينهما في رسم الصورة الإنسانية، ولعلنا نجد بخلاء من ثقافة الجاحظ أي “من المعتزلة “، ولو عدنا إلى أشهر شخصية كانت معروفة بالبخل “سهل بن هارون” من أصل فارسي، لوجدنا أن الجاحظ قدمها في قصصه وجهاً جميلاً (إنسان طلق الوجه، جميل المحيا، فصيح) يمتدح فصاحة سهل. وفي موضع آخر جعل أبناء عمه “آل رهبون” مثالاً للكرم والعطاء! لماذا لم يقدم الجاحظ صورة سهل بطريقة أخرى؟ مع أنّه كان يختلف معه فكرياً؟ ولوعدنا إلى إحدى صور الجاحظ عن بخلائه، لوجدنا أنه قد قدم صوراً جميلة للبخيل الفيلسوف في قصصه حيث سُئل بخيل مرة: لماذا لا تأكل مع الجماعة؟ فقال: “أكلي مع الجماعة فرع، وأكلي مع ذاتي أصل” نرى البخيل يناقش الأكل وكأنه قضية فلسفية! وهذه من إحدى الصور الجميلة للبخيل وقد قدمها الجاحظ في قصصه، فكان موضوعياً أعطى للعرب والفرس الصورة الحقيقية، كما أنه ابن الثقافة العربية التي تنفتح على الآخر، ولا تشوه صورته. ولعل المشكلة الكبرى في يومنا هذا تكمن في مسألة تحطيم صورة الآخر على حساب رسم صورة عظيمة للذات في كثير من الأحيان، فافتقادنا لغة الحوار، والنقد البنّاء يسهم في تنميط الصورة بشكل عام، ولا مراء في أنّ النمطية والتعميم يسيئان إلى الصورة، فهناك صورة جامدة يكمن وراءها إنسان سواء أكان الإنسان (نحن أم الآخر) “نحن” ننزهها عن الخطأ، والآخر نلحق به كل أخطاء الكون.
نوار شداد