ثقافة

“مسرح الشمس”.. من رواد الحركة الطليعية الفرنسية

يرتبط المسرح كمفهوم إنساني بمعاصرته للمجتمعات في جانبيه النخبوي والجماهيري، وهو يتطور وينمو في أي مناخ سواء أكان هذا المناخ متوتراً بفعل السياسات أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي. فهو يسير في أفق متطور على الدوام وهذا ما جعله أو جعل طروحات رجالاته في أحيان كثيرة تتباعد فكرياً وتطبيقياً وفي أحياناً أخرى تقترب ويذوب بعضها في بعض.
لقد ظهرت تجارب تباينت في طرح أهدافها وطرائق إيصالها إلى المتلقي, ومن هذه التجارب تجربة (آريان منوشيكين1940) التي من خلالها أسسّت  فرقة “مسرح الشمس” منوشكين المولودة لأبوين روسيين وتخرجت في جامعة السوربون, أسسّت هذه الفرقة عام 1964 ضمّت مجموعة من الهواة, على شكل جمعية تعاونية عمالية تحولت فيما بعد إلى فرقة مسرحية, اعتمدت القيام بالبحث عن الشكل الفني الأكثر عمقاً والأقوى تعبيراً, وقد تولّت مسؤولية الفرقة إدارة وإخراجاً وتنظيراً، إذ اعتمدت في إدارتها هذه على مبدأ المشاركة الجمعية في الإنتاج. إذ تقوم الأعمال الإخراجية لمسرح الشمس على الخلق الجماعي، وهي تمنح الفرقة وقتاً كافياً للابتكار والاقتراح والتجريب، فعروضها هي عبارة عن تأسيس جماعي تقوم هي بإخراجه, وبهذا يكون العمل الإخراجي معتمداً في مسرح الشمس على الخبرات والتجارب التي يمتلكها أعضاء فرقتها, والعمل المسرحي هنا يتكون عبر التمارين التي تستغرق زمن إعداد العرض، إلا أن طريقتها لا تشمل منصة المسرح فحسب, بل يتعدى ذلك الجمهور الذي يأخذ دوراً فاعلاً قبل العرض وبعده لأنها تريد منه التعايش مع كل تفاصيل العرض.
عمل (مسرح الشمس) على مبدأ الابتعاد عن المسرح التقليدي وعلى عدم مسايرته خاصة فيما يرتبط بالنص وعناصر الإنتاج, كذلك عناصر العرض المسرحي, فهو بالدرجة الأساس مسرح سياسي يُؤكد على الضرورات الآنية للمجتمع, وعلى ما تفرزه طبيعة المرحلة من قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية, إذ يصهر هذه القضايا المهمة في بوتقة النص المسرحي الذي تعتبره الفرقة ومنهجها عنصراً من العناصر المكونّة للعمل المسرحي. كذلك تقوم بعملية إخضاعه لمبدأ المشاركة الجمعية, بمعنى أن مجمل أعضاء الفرقة يساهمون بإعداده بحيث يصبح متوافقاً مع أهدافها السياسية التي تدعو إلى التحرر والانعتاق من العبودية. إن فرقة مسرح الشمس ولطبيعة تكوينها الإيديولوجي اعتمدت فيما يخص النصوص المسرحية على إعدادها لها من خلال خبر سياسي يُنشر في صحيفة معيّنة أو يُقدم  من خلال المصادر السمعية والبصرية والإعلامية, فالنص المسرحي عند فرقة مسرح الشمس  مساحة مفتوحة وقابلة للتعديل والتطوير والتفسير, وكل ذلك يتم عن طريق اتفاق الرأي الجمعي المسرحي بأكمله من خلال التمارين اليومية, حيث تنطلق الفكرة الأولى وتبدأ المجموعة بالشغل على تطوير هذه الفكرة, وكل تمرين من التمارين على المسرحية المعينة يعد بمثابة إضافة وتغيير في البنية الأساسية للفكرة التي انطلقت منها الفرقة.
بدأت منوشيكين عملها المبكر مع مسرح (الثياتردوسولي) في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين من خلال مسرح (الشعب) وكان هاجسها نشر المفاهيم الاشتراكية والتوجه نحو الطبقة العاملة وأماكن تجمعاتها, وتطبيقا لذلك فقد تم عرض مسرحية (المطبخ) لـ: آرنولد ويسكر1968 وقُدِّمَ من المصانع العرض في عدد من المصانع المُضربة عن العمل آنذاك. وكان أكثر تلك الإبداعات شهرة مسرحيتها المعنونة ” 1789″ أو “يجب أن تتوقف الثورة عن استكمال السعادة” وقُدِمت المسرحية عام 1970, وكانت المسرحية عبارة عن استعراض احتفالي ذي بؤر متعددة الصيغ لمسرح شعبي تلك التي طبقتها لتستعرض تاريخ فرنسا، وكان للمسرح الآسيوي تأثيره الثابت لاهتمامها به وبتقنياته. ومن عام 1981 حتى عام 2005 صوّرت أسلوباً خطابياً عالياً في التمثيل واستخدام الأقنعة ورقص وحركات مقتبسة عن التراث الآسيوي, وهكذا تعرفت تطبيقاتها ذات التداخل الثقافي مع الشرق مع مجموعتين من المسرحيات الكلاسيكية (مسرحيات شكسبير 1981-1982), وتراجيديات إغريقية 1990- 1994, ومسرحيات معاصرة ذات ثيمات آسيوية, بعد حين عادت إلى العمل التعاوني الخلاق لتروي قصصها عن عدد الأفراد الذين تم احتجازهم, ومنذ عام 1971 راحت تعمل لخلق بيئة خاصة يصل إنتاج مسرحي تنتجه وتحقيق جماليات جسدية وبصرية تنتقد بواسطتها الكولونيالية والامبريالية.
لقد هيمنت على الحقل المسرحي في النصف الثاني من القرن العشرين عدداً من التوجهات السياسية الفنية المسرحية المهمة ومنها:
أولاً: لتسمية فرقة منوشيكين(مسرح الشمس) لها معنى مجازياً هو أن المسرح ينير الطريق للعاملين فيه وللجمهور نحو مستقبل أفضل.
ثانياً: إن (المسرح الشعبي) ليس كما يدعي البعض هو ذلك الذي يعتمد على الكوميديا والذي يتخذ من اللهجة وسيلة للإضحاك.
ثالثاً: إن المسرح التجريبي ترضيات وإجراءات وأهداف. وفي مثالنا عن (مسرح الشمس) فإن الأهداف سياسية بالدرجة الأولى, وللعلم فإن جميع أهداف الفرق التجريبية في العالم هي سياسية ووسيلة نقد الجوانب السلبية في نظام الحكم وفي الوضع الاجتماعي والاقتصادي, وأن الارتجال هو التقنية الرئيسية في عمل الفرقة التجريبية.
كانت طموحات (أيريان منوشيكين) جراء تأسيس فرقتها أن تبتكر صيغاً مسرحية وفناً شعرياً مخصصاً للمسرح حيث فيه الواقع الإنساني والاجتماعي والسياسي. وتعتبر منوشيكين أن مسرحها نشأ وترعرع في الأجواء الثقافية التي تلت الحرب العالمية الثانية, وكانت متفائلة, وعكست التطلع إلى مجتمع أكثر ثقافة وعدلاً وأخوّة.  ويتوقف الكتّاب عند البعدين السياسي والإيديولوجي لهذا المسرح الذي أراد منذ البداية, أن يكون مسرحاً شعبياً, ويعبّر عن الواقع الاجتماعي بكل تعقيداته, من أجل تجاوزه واستنهاضه والمساهمة من خلال لغة سمعية وبصرية متينة في تحريره من أشكال العبودية التي تكبّل البشر. إن الدخول إلى فضاءات مسرح الشمس المتكون من مجموعة انزياحات, أظهرت شكليته التي هو عليها رغم أننا لا ننظر إليه مورفولوجياً أي من الخارج بل لا بد من الغوص فيه لمعرفة انطولوجيته وأبعادها التي أسست لوجوده.
إبراهيم أحمد