تموضع الشعر ودوره في تفعيل مأزق الثقافة العربية
أطلَّت الحداثة العربية بوساطة الآخر، أي من الخارج، ولم تكن كالحداثة الغربية، من داخل البنية المجتمعية، حين دحض فرنسيس بيكون (1561 – 1626) المنطق الأرسطي، بمؤازرة ظروف ثورية شاملة على الأصعدة كافّة، وما كرّسته هذه الظروف من انقلاب في النظم المعرفية, وبدء التأسيس لظرف موضوعي للحداثة الغربية وما رافقها من تغيّرات تجاوزت الثوابت كلّها، كمشروع ثقافي ضمن السياقات التاريخية والموضوعية لكل أنماط الإبداع الجديدة شكلاً ومضموناً، تلك التي أنتجتها المخيّلة الفكرية الأوروبية بمدارسها وتيّاراتها الفلسفية, والتي أدّت إلى ولادة قصيدة النثر الغربية ولا حقا العربية، مقدِّمةً مفهوماً نقدياً ثورياً لنظرية البنيوية وكذلك التفكيكية، ولاحقاً التحطيمية.
يؤكد(ف.دي سوسيور) أن تطور اللغة, مشروط بظواهر الكلام وهذا يعني أن مدلول الكلمة يتغير تبعا لحالاتها, ووظائف التعبير المتصلة بها, من تركيب الجمل, وتكوين العبارة، فالشيء الذي يتطور دون انقطاع وبشكل لا إرادي هو الكلام، وهذا سوف يؤدي بالضرورة إلى تطور اللغة عموما ولغة الشعر خصوصا، لأنه يسعى إلى تقنين ظواهر الكلام والتطابق مع مستويات واتجاه النظم الاجتماعية,ومستوى الثقافة السائد الذي يتحقق ليس عن طريق تهديم نظام اللغة بل هو التأثير في التطور الداخلي للنظام التعبيري ذاته.
اليوم أزمة الشعر العربي شائكة، تبدأ موضوعاً من إشكالية العلاقة التاريخية بين الثقافة والمؤسسة، وافتقار المجتمعات العربية إلى بُنى وحوامل حقيقية اجتماعية من مؤسسات فكرية تحاول استقراء المشهد الشعري وتجاوز لغتها المتداولة بحيث تصنع فضاء شعرياً يعيش مستقبلاً، وتقدم اقتراحات حداثية بالنسبة إلى المخيّلة واللغة والدلالة والموضوع والبحث عن كينونتها عبر التجريب عبوراً إلى شخصية الكاتب/الشاعر عموماً ومدى قدرته على التواصل مع محيطه.
والسؤال: هل نجحت الحداثة الشعرية العربية في خط مشروعها؟
من بين المعايير التي تُحسب للتجربة الحداثوية العربية، الاحتفاء بالتجريب وعدم الركون إلى النمطي من أساليب التعبير، واعتماد التأويل وعدم المباشرة من خلال الصورة الشعرية المُنجزة، وتوظيف الأسطورة من كل البيئات والثقافات، والتعاطي مع القصيدة كوحدة عضوية فردانية الخطاب الشعري الذاتي، من خلال قيامها برفع الحاجز بين الكشف والتنبّؤ لمصلحة الإبداع الكامن، لكن أيضاً ما يُحسَب على تجربة الحداثة العربية أنها هادنت الموروث وأجهضت الطبقة الوسطى كحامل ومولّد اجتماعي للإبداع الحداثي، حيث أكّدت الاستراتيجيات الفكرية للمجتمعات كافةً أن التحدّي الكبير الذي سيواجه العالم في السنوات المقبلة، هو تحدٍّ أخلاقي ثقافي يلحّ على تعزيز أسباب حضوره الفعّال، وربّما أصبح وجود الشعوب أصلاً مرهوناً بوجودها الثقافي.
على صعيد الواقع والوعي الشعريَّين، ثمة تجارب عربية مهمّة أضافت الكثير إلى التجربة الحداثية العربية “أدونيس” وتجاربه المثيرة للجدل بكل تلك الذاكرة الإشراقية للجوّانية الشعرية وللذاتية على مستوى الأطروحات وعلى مستوى النظريات المؤوِّلة لجوهر أطروحاتها, بمعنى قابليتها للتعبير والشرح والاختزال أيضا ضمن المفهوم الشعري، وعلى ذلك المعيار يمكننا القول لم تكن الصورة الذهنية الحادة, لابن الرومي إلا تجديدا في زمانها، وأما المجاز عند أبي تمام ومد الخيال فهو محدث بامتياز, وكذا الموشحات التي طرب لها الناس، وإن اختلفت عن الشعر التقليدي في الشكل والإيقاع والمضمون واللغة، منسجمة بذلك مع بيئتها دائما، هذا يعني أن التجديد لم يكن منقطعاً، وان اختلفت تقنياته التي شملت المضمون والمعاني دون المساس غالبا بالشكل، مثلاً لا يمكن إهمال تجديد عمر بن أبي ربيعة في الغزل الذي أصبح له مدرسته، وكذا مدرسة جميل أو الغزل العذري في البادية والوليد بن يزيد, حيث ابتدع فن الخمريات سابقا أبو النواس بذلك، إنما الشيء الذي حظي بانتباه المتابعين فعلا قديما وحديثا هو شكل التعبير باعتماد المجاز وأنواعه، الذي يحرك خيال المتلقي سامعاً أو قارئاً، أي التنبؤ بما يعنيه أن نكون في الحاضر ومشغولين بما ينتجه هذا الآن من تنويعات، ومما يرسخ قيم المغامرة والتجديد لم يقف عند رج الثوابت العروضية من خلال التحرر من الوزن والقافية فحسب. ففي إجابات المشهد النثري الحديث يغيب شطر من التساؤلات ليتكون آخر حسب كل تجربة وخصوصيتها, أي السّمات الحاضرة في وعي المبدع بوصفها مميّزات للشّعر,دون أن تحال كل الآلة الإبداعية إلى حالة من الشجن اللامُجدي, بل إلى تجربة تصوغ أسئلتها بجدية التجربة المرتبطة بشرط إنتاجها، أي ما يمكن أن نسميه بعصر الأسئلة وبالتالي علاقتها بالآخر، وهكذا فإن طبيعة الرؤيا المنفتحة التي صاحبت تأملات تطور التجربة الشعرية الأصلية, تسمح بإعادة بنائها وفق تصورات جديدة مغايرة.وقد وعت التجربة النثرية العربية مبكراً أن لا سبيل لتخطي هذا العائق إلا بالانفتاح على التجارب العالمية، وبتأكيد قواعد الحوار وقيم الاختلاف رصدا للصورة الشعرية وإغناء التجربة على مستوى الشكل والمضمون والحدث. إنما المطلوب هو تعميق وتعميم المعرفة الموضوعية والنقدية بالذات الحضارية، وتجديد الخطاب الفكري وتدعيم دور مؤسّسات الاستنتاج الثقافي والتفاعل في ما بينها، لأن هذا هو الحدّ الفاصل بين المجتمعات البدائية التي لا تعنى بالذاكرة والمجتمعات المتحضّرة التي تنظر إلى المعرفة بوصفها تراكماً وبناءً لا مجرّد انقطاعات وبدايات مكرّرة.
سمر محفوض