ثقافة

هـجـرة قـلـبـيـة

تمام علي بركات

عن نفسي وبالأصالة عما لا أمون عليه في بعض تقلباتها، لن أسافر، ولو كان هذا آخر عمل أقوم به في حياتي، لن أهاجر، ولو وضعوا ألمانيا عن يميني والسويد عن شمالي.
لن أسافر ولو ترجتني مونيكا بيلوتشي وإدغار الآن بو والإسكندر المقدوني، لأفعل.
لن أهاجر ولو لم يبق ما أقف عليه من هذه الأرض إلا شبرا تحده المياه والغزاة من كل صوب. وإن خرجتم جميعا فلا تقلقوا، سأرتب كل تلك الفوضى التي عقبت رحيلكم، الفوضى التي خلفتموها وانتم ترتدون سراويلكم على عجل بينما سجائركم تنس وحدها في المنفضة.
سأطفئ الأنوار التي لا احتاجها، سأغلق أسطوانات الغاز جيدا، سأعيد ملابسكم التي تركتموها خلفكم إلى رفوف خزائنكم، سأكمل القصائد التي لم ينهها الشعراء منكم، والألحان التي توقف سلمها الموسيقي عند جملة لحنية من مقام البيات، سأقرأ كل الروايات التي كنتم تقرؤونها من الصفحة التي توقفتم عندها، سأطعم قطة جارتي العجوز وأقدم الماء للكناري المجنون صاحب الريش الأصفر القذر الذي يحيا على الشرفة المقابلة، سأنظف حوض السمك وأعيد العجلة الصغيرة التي في داخله للدوران، سأنهي وجبة الغسيل للسيدة التي نسيت مفاتيح بيتها في جيب مئزرها، وأكمل رسم لوحة الأسرة السعيدة عن الطفل الذي نام وفي أحلامه استيقظت العصافير.
سأكمل صلاة المغرب من الركعة الثانية التي بقيت معلقة بن أحدكم وبين الله، والسبحة ذات الـ 99 حبة، سأنهي دورتها بين أصابعي باسم الأب والابن والروح القدس بعد الصلاة على النبي الأمين.
سأركن سياراتكم التي تركتموها على عجل في الشوارع مفتوحة الأبواب ومصابيحها تغمز كعاشقة سيئة الحظ، سأرفع الآذان وأقف على الحواجز، مرة كجندي طيب، ومرة كعابر نسي بطاقته الشخصية، سأنظف بنادقكم وأعيدها إلى الجبهات لامع نصلها كحد الحزن.
لن أسافر ولن أغادر هذا البيت ولن أنام إلا في فراشي حتى لو صار باردا ووسادتي محشوة بالدموع.